Language

قصة بقرة الأيتام و حكايات أخرى (تراث الشعبي الجزائري)


في كل بيت، في كل قرية ومدينة يتذكر الكبار والصغار حكاية الأوائل الذين صنعوا الحياةبأفراحها وأتراحها،، وبين مئات الحكايات التي ترددها الجدات... من ذاكرة لأخرى ومنحكاية لحكاية نستلطف أعذب القصص وأغربها عبر سالف الأزمنة، تتداولها الألسن لتكوّنجلسة من جلسات التسلية والإثارة،، نقضي بها الساعات الطوال من الليل قرب الجدة.‏
"زينب" التي ما فتئت ذاكرتها المشحونة بصور حوادث مؤلمة ومفرحة يستعيدتذكرها زفير الزمن، يبتهج لها الصبية المجتمعون حولها في صبر وشوق وهي تسرد عليهمهذه الحكاية قائلة:‏
-آه يا أبنائي سأقص عليكم حكاية "بقرة اليتامى" القصةالتي أبكت الأجيال، قصة الإنسان الذي لعبت به الأقدار في سخرية دامعة،،‏
يردون عليها: -نعم،، نعم يا جدتي هيا بسرعة،،‏
الجدة:‏
تغمر السعادة قلب الرجل الساكن الكوخ،، تحت زقزقة العصافير وزرقة السماء،ومع اخضرار الأرض تداعبه بسمات زوجته الحنون وهي ترعى طفليها "ظريف ومرجانة" معبقرتهما الصفراء، ذاك رزقهما في الدنيا ينتفعان بحليبها... يجلسان بقربها، فتلامسبلسانها وجه "ظريف"، هذه سعادتهما تتضاعف، وقهقهاتهما تتعالى والفرح يحيط عالمهماوهما يترعرعان في حضن أبويهما الكريمين،، وتمر الأيام والليالي والقدر يكن للعائلةالصغيرة الهادئة أموراً أخرى،،‏
فجأة تخور قوى الأم الرؤوم فتصبح طريحةالفراش،، تمزقها سكاكين الوجع، تزيدها حرقة دموع طفليها وحسرة زوجها،، كانت الفتاةتسهر بجانب والدتها تخفف حرارة جسمها، وأضعه قطعة من القماش مبللة بالماء الباردعلى جبينها.. وما عسى "ظريف" أن يفعل سوى ذرف دموع حارقة شفقة على أمه التي قديفقدها إلى الأبد!! وتزداد الحمى ويشتد مرضها،، فتسلم روحها إلى بارئها تاركةوراءها طفلين للوحدة والاغتراب،، لليتم والأحزان،،،،،‏
** *‏
الحزندخل البيت دون استئذان،، شقاء وآلام مرة مرارة العلقم ودموع من فيضها تجريكالوديان... ما أقساك يا زمن الفراق، صحيح أن فراق الأحبة غربة،، وهكذا صار الطفلانكالعصفورين الصغيرين يبحثان عن أمهما في قلب أبيهما،، وأضحى الكوخ حزيناً مكفهراً،الظلام الدّامس يسكنه في رابعة النهار كما سكن أفئدة العائلة الجريحة كأنها طائرمهيض الجناح، الحزن الأسود يخيم على الجميع، حتى البقرة أحست بفقدان صاحبتها فندرالحليب في ضرعها...‏
** *‏
مرتالسنون والعائلة بائسة تكاد رياح الشقاء تعصف بها.‏
رغب الأب عن الزواجبامرأة أخرى لأن زوجته الأولى لازالت تحتل قلبه وتفكيره لكن حرصه على ولديه،ورعايتهما وتدبير شؤون البيت جعله يفكر في الأمر مرة ثانية.‏
وتزوج الشيخمن امرأة ظن الخير في ناصيتها لكنها كانت تخفي تحت جمالها قلباً أسود أقسى منالحجر، قلباً لا يرحم ولا يلين.‏
أنجب الشيخ من زوجته بنتا سمّاها (عسلوجة)فتضاعف حقد زوجة الأب على الطفلين (ظريف ومرجانة) اللذين كان يقضيان وقتيهما فيالنهار مهملين جائعين، وعند المبيت يفترشان الثرى أو التبن قرب بقرتهما، يستمدانالعطف والحنان من نظراتها كما يستمدان الغذاء من حليبها الدسم فنما جسماهما وتوردتخدودهما صحة وعافية وكان ذلك العطاء الحيواني تعويضاً للحرمان الإنساني.. احتارتزوجة الأب في أمر (ظريف ومرجانة)، رغم حرمانها وإهمالها لهما، يزدادان نمواًوجمالاً، وفي المقابل يعتري (عسلوجة) شحوب وهزال رغم عنايتها الفائقة بها غذاءولباساً ودلالاً. فسهرت لذلك الليالي تفكر باحثة عن جواب شاف كاف للأسئلة المتهاطلةعليها كسيل الأمطار، لكنها لم تجد حلاً للغز المفارقة التي تراها تزداد يومياً.‏
وفي أحد الأيام أوصت بنتها (عسلوجة) قائلة:‏
-رافقيهما إلى المرعىوارصدي حركاتهما لتخبريني من أي مصدر يسترزقان، من أين يأكلان، لم تكن عسلوجة أقلمن أمها حقداً وغيرة تجاه أخويها (ظريف ومرجانة) مما جعل نار الحسد تشتعل في قلبهاالصغير فيصعد دخان اللهب إلى وجهها ليجعله أسود وهكذا ورثت (عسلوجة) من أمها صفةقبيحة تميت صاحبها ببطء.‏
استجابت عسلوجة لطلب أمها بلهفة وراحت ترقبالطفلين عن بُعد...!!‏
كانت دهشتها كبيرة وهي ترى البقرة في منتصف النهارتقترب منهما فيجثوان على ركبتيهما ثم يمسكان بضرعها لينهلا منه الحليب الصافي،يرضعان مثل الصبيين التوأمين كأنهما يمتصان ثدي أمهما،، يا له من مشهد رباني،،،ياله من موقف غريب عجيب،، حادث رائع، يدعو إلى التفكير في أسرار هذه الحياة وسخريةالأقدار ببني الإنسان.‏
اندهشت البنت (عسلوجة) لما رأت ذلك، لكنها سرعان ماحاولت تقليدهما،، تقدمت نحو البقرة وقبل أن تضع رأسها قرب الضرع صَكَّتْها البقرةبحافرها فأصابت عينها اليمنى، وكان ذلك جزاء التجسس على الأبرياء.. وعادت البنت(عسلوجة) إلى أمها مغمضة العين باكية الأخرى فأخبرت والدتها بما حدث لها وما شاهدتطول النهار.‏
اغتاظت الزوجة لما رأت وسمعت واشتد غضبها فعاقبت الطفلين(ظريف ومرجانة) عقاباً شديداً وقررت التخلص من البقرة (أم اليتامى).‏
ها قدشرعت تفكر في حيلة تنصب شراكها لتنفيذ قرارها.‏
بدأت توحي بذلك إلى زوجهاتمهيداً لإبلاغه القرار، وبعد ذلك بأيام طلبت منه ذلك جهاراً نهاراً، قائلة:‏
-أيها الزوج العزيز، يا شيخي الكريم، نحن لسنا في حاجة إلى البقرة.‏
ردَّ عليها في دهشة وغضب: -ماذا تقولين أيتها الحمقاء؟ أجننت؟ أنسيت حليبهاولبنها وسمنها؟!‏
قالت وهي تلح في جرأة وقحة:‏
-بعها واشتر لناحماراً نركبه فيريحنا، إني كرهتها، إنها متعبة، لا أريد رؤيتها بعد اليوم.. وباتاليلتهما متخاصمين، يتجرعان مرارة الخلاف...‏
وجاءت الأيام ومع إصرار الزوجةعلى رأيها تفتت موقف الشيخ الصلب وانصاع لرغبة "زوجته".....‏
في السوقالأسبوعي حيث ينعقد مؤتمر التجار والفلاحين ويلتقي الغني بالفقير والفلاح بالأميروالأمين بالغرّير، كان الناس يحملون السلل الحافلة بمختلف أنواع الخضر والفواكهالشهية التي منّت بها عليهم الأرض.... فواكه لذيذة أنتجتها أيدي خشنة متجعدة، كماعرضت في السوق أواني طينية أبدعتها أنامل النساء القرويات في أشكال منقوشة ومظاهرمنحوتة وصور مزركشة قشبية أخذت من أمنا الأرض زخرفتها.‏
تقول الجدة "زينب"ضاحكة:‏
-"لو كان ما لساني لحلاح ما خذيت المداح" هذا حال الدنيا ياأكبادي، وهذه طبائع البشر كمعادن الأرض، فيها الذهب والفضة وفيها النحاس والرصاص،توجد نساء عطوفات كالأمهات أو أكثر، لا تخافوا يا صغاري، يبتسم الأطفال وتواصلالجدة سرد الحكاية، وهي تتثاءب واضعة راحة كفها على فمها من حين لآخر:‏
منمطلع الفجر لبس الزوج عباءته البيضاء ورمى برنوسه البني الطويل على كتفه ثم اتجهنحو الإسطبل ماسكاً الحبل بيديه المرتعشتين ليضعه حول قرني بقرة اليتامى...‏
كانت البقرة في طريقها إلى السوق الأسبوعي تبكي بلا دموع وكأنها عرفتمصيرها، بل أنها كانت تبدو حزينة لفراق الطفلين الأبدي.‏
عندما ابتسم الصبححزيناً ذهبا إلى مكانها كالعادة لشرب حليب الصباح فوجدا المكان خالياً..‏
لم يجدا الكنز الذي تركته لهما أمهما فشعرا بموت أمهما مرة ثانية، وكأنهاتوفيت مرتين. فبكيا كثيراً...‏
كان الشيخ في طريقه يردد في نفسه كلمات يقصدبها زوجته:‏
-هي تقول وأنا أقول... هي تقول وأنا أقول حتى غلبتني بالقول،،،لقد صدق من قال لكل داء دواء يستطب به إلاّ الحماقة أعيت من يداويها يا ليتني تزوجتبالضاوية بنت المدّاح المرأة الكريمة العطوفة.‏
وفي باب السوق وجد الشيخجزاراً يسوم الناس أبقارهم، فباعه البقرة بأدنى ثمن وعاد إلى بيته حزيناً يدعو اللهاللطف والرحمة بصغيريه اللذين وجدهما مكان البقرة في حداد ينظران نحوه نظرات غريبةممزوجة بالعتاب والاستفهام...‏
استلقى الشيخ على فراشه ليلاً وبعد أرقوسهاد حرما على جفونه النعاس استسلم للنوم فرأى في الحلم زوجته الأولى أم الطفلينتزوره دامعة العينين وهي تقول له: سامحك الله.... لقد ضيعت الأمانة.‏
ثمتطلب منه الذهاب إلى الجزار لاسترجاع ضرع البقرة وقرنيها ووضعهم على قبرها في أقربوقت لاحق.‏
قام الشيخ من نومه مفزوعاً ولبس عباءته في منتصف الليل، ثم غادربيته صامتاً وفي سرعة عجيبة هرول نحو دار الجزار، وأكمل الهزيع الأخير أمام بابالجزار ينتظر خروجه.‏
استيقظ الجزار على نباح الكلب فوجد الشيخ على عتبةالبيت يرتعد من البرد، استغرب لحاله واستفسره عن رغبته، تعلق الشيخ بملابس الجزاريقبل يديه ملتمساً منه إعطاءه ضرع البقرة وقرنيها.‏
كان الطلب غريباً كلنقلب الجزار رغم قسوته رقَّ لحال الشيخ واستجاب لرغبته وقدّم له ما أراد في تلكالصبيحة....‏
بيديه حمل الشيخ ضرع البقرة والحليب يسيل منه ممزوجاً بالدم،ووضع قرنيها داخل قلمونة برنوسه، وسار في اتجاه المقبرة التي تنام فيها زوجتهالأولى، عندما وصل إلى قبرها حياها في حسرة وأسف، ثم وضع الضرع على قبرها قرب حجرالشاهد، وغرس قرني البقرة بالقرب من القبر ثم انصرف إلى بيته مسروراً بإرضاء زوجتيهمعاً.‏
** *‏
يشتد الزمن على الطفلين بمرارته المتوالية مع الأيام،لقد حزنا حزناً عميقاً لغياب بقرتهما، وها هو الجوع يضنيهما وزوجة أبيهما ترفضالاستجابة لتوسلاتهما المنبعثة من معدتيهما الخاويتين،، شحب لون وجهيهما وهزلجسماهما حتى صارا لا يُعرفان عند الناس...‏
في يوم من الأيام اشتد شوقهمالرؤية أمهما، فذهبا خفية إلى مقبرة القرية يزوران قبر حبيبتهما ويشكوان لهاحالهما،، وصلا إلى القبر جائعين يلهثان من العطش فوجدا عليه ضرع البقرة يفيض حليباًدافئاً، كان ينتظرهما كالعادة وبالقرب منه نخلتين باسقتين كثيرتا العراجين التمرية،تأتي أكلها كلَّ حين.‏
احتضنا قبر أمهما فرحين مسرورين بلقائها وكأنهمايسمعان صوتها ينبعث من تحت التراب ثم بكيا حتى تبلل تراب قبرها حينما تذكرا حضنهاالدافئ الحنون.‏
شربا الحليب وأكلا التمر حتى شبعا وارتويا ثم تحولابنظراتهما يتطلعان إلى السماء وإلى النخلتين في صورتهما الشبيهتين بقرني البقرة،وبقي الطفلان اليتيمان طوال النهار يناجيان أمهما في مظهر إنساني لا مثيل له.‏

قدم الطفلان إلى المكان مرة ثانية وثالثة، يرتادانه وقت الحاجة حتى عادتالنضرة إلى وجهيهما والسحر إلى محييهما والعافية لجسميهما فعاود زوجة أبيهما الحسدوالضغينة، وطلبت من ابنتها (عسلوجة) إعادة الكرة مرّة ثانية، قبلت (عسلوجة) المهمةبغبطة وكأنها خلقت لفعل التجسس.‏
رافقت عسلوجة شقيقيها المغضوب عليهما إلىحيث يسيران، كانا يتعمدان التمويه في سيرهما بين المزارع والحقول يريدان التخلص منأسئلتها التحقيقية لكنها كانت مصممة على بغيتها. ويمر النهار عسيراً على الطفلينرغم اللعب والمرح بعض الأحيان، ينتظران عودة (عسلوجة) إلى البيت وقد أخذ منهماالعياء والجوع،،، طلباً منها الرجوع فلم تقتنع حذراها من مهالك الطريق الذي يسلكانهفلم تأبه لكلامهما... حاولا العودة إلى البيت لكن الشوق والجوع والظمأ أرغموهما علىالاتجاه نحو المقبرة...‏
كان الوقت أصيلاً وخلاله قهرهما الجوع فلم يستطيعاصبراً وتوجها نحو الضرع والنخلتين يهزان جذعيهما فيتساقط الحب رطباً شهياً. وانكشفالسر.... تقدمت (عسلوجة) من الضرع المدرار وتجرعت خلسة قليلاً من الحليب وأبقت جرعةفي فمها، كما وضعت تحت شفتها السفلى شق تمرة ثم عادت نحو البيت مسرعة لتجد أمها فيانتظار التقرير الكامل المفصل عن المهمة الموكلة لها.‏
باتت زوجة الأب تفكرفي الأمر أرهقها التفكير ولم تجد للموضوع حيلة ومع الصباح المشرق في ربوع القريةسمعت منادياً ينادي لبيع ما لديه من كسوة وعقاقير،، إنه الدلاّل... ها قد جاء فيموعده... هرعت إلى بوابة الكوخ تسأله: ما في حوزتك لقطع النخلة؟ أجاب والعرق يتصببمن جبينه:‏
-القطران في عروق النخل، يقتل الجذور فتصبح سواكا وبخوراً.‏
أطربها جواب الدلاّل فاشترت منه ما يكفيها للفتك بالنخلتين، واتجهت صوبالمقبرة لاهثة، تحمل القطران في يدها والمكر في قلبها، وما إن وصلت إلى النخلتينحتى بحثت عن جذورهما ودست فيهما القطران، ثم أخذت ضرع البقرة ورمته خارج المقبرةللكلاب التي التهمته في الحين.‏
بعد عودتها إلى البيت مكثت صامتة صمتالمذنبين، لا يرى الرائي في عينيها الغائرتين غير علامات المكر والدهاء، أقبل الشيخمن عمله متعباً وقد ضعف بصره وابيض شعره، واحدودب ظهره، وقبل أن يستريح وقفت فيوجهه صارخة تتصنع الغضب:‏
-هيا أبعدهما عني، إني كرهتهما؟‏
يتساءلالعجوز في حيرة: -من تقصدين؟‏
قالت: -هما، اللذان تسببا في تعوير عين ابنتيعسلوجة.‏
** *‏
مع الصباح الباكر يجهز الشيخ ابنه ظريف وابنتهمرجانة للرحيل،،، قصدوا الغابة ترافقهم الدموع، وفي نهاية الدرب الزراعي الملتويقرب سفح الجبل ودّعهما الشيخ بشهقات حزينة وهو يضع في أيديهما قطعاً من الخبزوكيساً مملوء بألبستهم وفراشهم... وعاد إلى البيت كئيباً،، عاد وحده يبكي حرقةالوداع الأبدي..‏
ويسير الطفلان قاطعين الوهاد والجبال والأدغال، خارجينبلاداً داخلين أخرى، هائمين على وجهيهما لا يعرفان لرحلتهما اتجاهاً معيناً أونهاية محدودة.. كان التعب قد أخذ موضعه منهما فجف ريقهما عطشاً والتوت أمعاؤهماجوعاً وكادا يموتان عياءً وظمأ لولا إشرافهما على نهر جار يسمى وادي السحر، بدالهما من بعيد أملُ يائس وبسمة قائظ ومائدة نزلت من السماء.. وعندما وصلا لاحظتمرجانة سائلاً سحرياً يختلط بالماء، فتذكرت قصة الوادي السحري الذي يغسل الأبدان منالدنس ويحول شاربي مائه إلى غزلان!!‏
أسرع أخوها ظريف نحو النهر وانكب علىالماء يريد إطفاء نار العطش الملتهبة في حلقه لكن أخته منعته من الشرب وبصعوبةأبعدته عن الماء وواصلا طريقهما.. توقف الطفل ظريف عن المشي وأخبر أخته بضياعقلادته عند الوادي، قلادة الذكرى والتذكار، المهداة له من أمه العزيزة... سمحت لهأخته بالعودة للبحث عن قلادته وأوصته بالامتناع عن الشرب.‏
ورجع الطفل إلىالنهر للبحث عن ضالته، لكن انسياب الماء بين الحصى زلالاً صافياً أفقده الصبر فلميتمالك نفسه وانهال على الماء يعبه عباً، وفي لحظة، في رمشة عين، صار العجب! لقدتحول الطفل ظريف إلى مخلوق آخر.. يشبه الغزال! اندهشت لذلك أخته وبكت بكاءً مراً ثمحزنت لذلك حزناً عميقاً، واشتدت حيرتها على أخيها.. ها هي "مرجانة" جالسة تحتالشجرة تمشط شعرها والطفل الغزال أمامها يرتشف جرعات الماء لا يدري ولا يدرك حاله..انسلت من شعرها الذهبي واحدة،، كانت طويلة في امتداد سالفها الطويل، سقطت الشعرة فيمجرى النهر فجرفها التيار وسرى يتلاعب بها مسافات بعيدة، حتى توقفت فجأة بين أنامليد بشرية،، إنها يد سلطان البلاد..‏
** *‏
منذ حين كان السلطانيتجول في رحلة صيد يصحبه الجند وسط الأدغال والأحراش وعند الظهيرة أراد الاستحمامبماء النهر الدافئ استعداداً لتناول وجبة الغذاء الدسمة، جلس على ضفة النهر ووضعيده في الماء يعاكس التيار الجاري مستلذاً بانسياب الماء بين أصابعه كسريان النسيمالعليل بين السنابل، عندما حمل السلطان الشعرة في كفه كانت أشعة الشمس تنعكس عليهافتماوجت ألوانها في منظر سحري بديع، تفحص وتمحص الشعرة الذهبية كثيراً وبفراسةالأذكياء عرف أن الشعرة لفتاة رائعة الجمال كريمة النسب عالية الخلق.‏
وقفالملك صامتاً ثم اعتلى صهوة جواده الأصيل، فاجتمعت حاشيته حوله تنتظر الأوامر،،،قدّم لهم الشعرة قائلاً:‏
-جاءت مع الماء،،، أريد رؤية صاحبتها في أقربوقت.‏
وبعد هنيهة من الزمن كان الجند يسلكون ضفتي النهر قاصدين منابع الماءللوصول إلى صاحبة الشعرة الذهبية،،، وجدوا في طريقهم نساء كثيرات يغسلن ثيابهنوينشرنها على الشجيرات القريبة من النهر كما شاهدوا فتيات عذارى يستحممن بماء النهروقد أفزعهن قدوم الجند بغتة من حيث لا يدرين. وظل الجنود يسعون، يقارنون الشعرةالذهبية بشعر كل أنثى يصادفونها في طريقهم حتى اشتغل الناس بالأمر واحتارت النساءلذلك وتوقفت خطوات الجند على رأس النهر، حيث منابعه الأولى ولم يجدوا لصاحبة الشعرةالذهبية سبيلاً ولا أثراً، فعادوا إلى السلطان خائبين بعد أسبوع من البحث الدقيق،والاستطلاع الواسع.‏
اغتمّ السلطان لمّا علم بالأمر، واستسلم لتفكير طويل،يسائل نفسه ويعاتب تاجه ووزراءه عن عجز سلطانه في الوصول إلى شيء بسيط في مملكتهوهو الآمر النّاهي...‏
ومرت الأيام فانشغل بأمور الرعية محاولاً تسليةنفسه، لنسيان صاحبة الشعرة الذهبية الغريبة،،، لكنه لم ينس إخفاء الشعرة في صندوقهالخاص مع لوازمه السرية.....‏
** *‏
ها هي الفتاة مرجانة تمشيوأخوها الطفل الغزال ظريف يتبعها في مشهد غريب حقاً،،، وفي غمرة حيرتها الكبرىشاهدت كوخاً قديماً يتوسط الأشجار فأسرعت بها قدماها نحوه، إنه لعجوز طيبة تعيش منالأعشاب والعقاقير التي تحضرها إلى الدّلال كل صباح، عندما يأتي وعلى كتفه "الشوال"وهو ينادي:‏
-غذاؤك دواؤك، هات ما عندك أعطيك ما عندي،،، البيع لاوالمبادلات نعم.‏
فتقدم له العجوز الحشائش والعقاقير النافعة للعلاجمستبدلة إياها بالقمح والشعير والزيت.‏
رحبت بالطفلة التي جاءت تريد الخبزوالماء لها ولأخيها.‏
تستغرب العجوز ثم تسأل:‏
-أين أخوك؟‏
وقصّت عليها مرجانة الحكاية من البداية إلى النهاية.‏
أسرعت العجوزإلى مربط الجديان وأطلقت الغزال من ربقة القيد، بعد أن عرفت قصته، فجاء مسرعاً ليقفقرب أخته، وقدمت لهما العجوز الخبز والعسل والتفاح ثم قالت لهما:‏
-لاتيأسا من رحمة الله،، أنا أمكما الآن... ثم نظرت إلى السماء وهي تقول:‏
-شكراً أيتها العناية الإلهية لقد حققت حلمي،،، حلمي الدفين منذ سنين.‏
عمّ الخير البلدة بحلولهما على بيت العجوز فنزل الغيث وتفجرت الينابيعالمائية واخضرت الأرض الفلاحية، وغمرت خيمتها الأرزاق.‏
ويأتي الدلاّل يأخذطبق الأعشاب فيجد بداخله ذهباً،،، استمر الحال شهوراً والدلاّل فرح ومتعجب، لكنالاستغراب كان يملأ خاطره ويشغل باله،، فقرر بعد سنين اطلاع السلطان على هذا السرالعجيب... الأعشاب تصير ذهباً والصيف يصبح ربيعاً؟؟؟........‏
** *‏
زوجة الأب وابنتها عسلوجة يقرران الرحيل والشيخ يمانع وقد ظنّ أن يدالأقدار تعيد له طفليه، حاول الامتناع لكن إصرار زوجته وتهديدها له بتظليمه لدىالحاكم زورا والوشاية بأنه لا يدفع الضريبة السنوية على أفراد عائلته، أخضعاه للأمرالواقع.... وسافرا الثلاثة إلى غير رجعة تاركين البيت أطلالاً، جدراناً طينيةتتلاعب الرياح بسقفها النباتي.‏
أصبح الدلاّل من الأغنياء لكنه لم ينقطع عنالدلالة، ها هو يدخل قصر السلطان الواسعة أرجاؤه ويطلب من الحرس السماح له بمقابلةالسلطان، بعد محاولات كان له ما أراد، يطأطئ رأسه، محيياً السلطان، بقوله:‏
-العظمة والجلالة لمولانا السلطان (يشير عليه السلطان بيده اليمنىقائلاً):‏
-هات ما عندك أيها الرجل، إن كنت مظلوماً فأنا منصفك وإن كنتمسلوب الحق أنا راده لك... انشر ما في صدرك...‏
الدلاّل مبتسماً:‏
-عفوك أيها السلطان، لا هذا ولا ذاك، إن سبب حضوري، واقعة أذهلتني وأطلب منمولاي السلطان السماح بسرد قصة العشب الذهبي.‏
(يشجعه السلطان بإيحاء منملامحه، فيطلق الدلاّل العنان للسانه يصول ويجول واصفاً الزمان والمكان بأوصاف شتىأثارت فضول السلطان وحركت فيه سلطة القرار فأمر أحد حجابه بإحضار العجوز ومن معهاقبل غروب شمس ذلك اليوم).‏
وغابت الشمس في الأفق وفي القصر أشرقت شمس أخرىإنها الفتاة مرجانة رفقة العجوز وأخيها الغزال أدخلهم حاجب القصر، فبهت السلطانلجمالها الباهر، كان سحرها يسري في النفوس كالموج في امتداده، جاء السلطان في الحينبالشعرة الذهبية وقارنها بشعر الفتاة فإذا بها تشبهه..‏
-يا لها من صدفةعجيبة!!‏
قالها السلطان وهو يهش لوجودهم بالقصر... ثم أكرم حضورهم وطلبمنهم الإقامة في جناح الضيافة ثلاثة شهور لعلاج الغزال.‏
وجاء يوم الصبحالثاني ومعه وفود الأطباء والعلماء والعارفين بعلوم الدين، كانوا يصلون زرفاتووحدانا تلبية للنداء العاجل الذي أصدره السلطان إلى عمّاله في الأقاليم، ومعالأصيل كانت ساحة القصر تعج بذوي الأفهام والعقول النيرة والعارفين بسداد الرأي فيالطب والحكمة، ها هم ينتظرون ظهور السلطان، أعناقهم تشرئب إلى الشرفة المهيأة لهلمعرفة سر جمعهم.‏
وبعد زمن قصير أطل السلطان وحياهم بإشارة من يده ثم أمرحاجبه إحضار الغزال فأحضره في الحين، توجه السلطان بخطاب مطول للحاضرين تحدث فيه عنالحياة وأسرارها والخالق وقدرته، ثم طلب من الجميع البحث عن علاج للطفل الغزال كييعود لصفته البشرية خلقة وخلقاً، لم يخف الحاضرون اندهاشهم وراحوا يسبحونويحوقلون.. تناظروا فيما بينهم وشرعوا في التفكير والبحث وإجراء التجارب..‏
خلال فترة العلاج والضيافة أعجب السلطان بالفتاة مرجانة سلوكاً وجمالاًوتعلق قلبه بها، فعرض عليها الزواج... وافقت الفتاة مرجانة لكن مهرها كان غالياً،إذ طلبت من السلطان الوعد بعلاج أخيها حتى الشفاء التام، وقبل السلطان شرطها،،فأقاما عرساً بهيجاً رقص فيه الغزال كثيراً وعاشا أياماً سعيدة وعيشاً رغيداً تملؤهالمودة والرحمة ويزينه التفاهم...‏
** *‏
من مرافق القصر الترفيهيةالمتحف الحيواني الذي يجمع في أروقته أصنافاً عديدة من الحيوانات الأليفةوالمتوحشة، زاره السلطان رفقة زوجته فسرّت بما رأت وقالت في نفسها عندما مرت بجناحالغزلان:‏
-ربما يوجد في هذا السجن الحيواني من كان إنساناً وشرب الماءالسحري فتحول إلى غزال، وصارت تتردد على هذا الجناح كل أسبوع تبحث عن سرّ ما.‏
** *‏
وفي يوم من الأيام اضطر السلطان للسفر، فأخبر زوجته بعزمه ثموضع في أصبع من يدها اليسرى خاتم السلطنة، وأوصاها باستعماله عند الضرورة.. ودّعهاومشى فشيعته بنظرات ينبعث منها الحب والاعتزاز، ثم عادت إلى جناحها كي تستريحقليلاً ولتختلي بنفسها فتنظر إلى بطنها المنتفخ، مبهورة بالحمل، فخورة متشوقةللمولود الأول، الذي ستأتي به هدية إلى السلطان بعد عودته..‏
في غيابالسلطان عن قصره جاء فقير في ثياب بالية يطلب صدقة، كان الوقت أصيلاً، إنه الزمنالذي تخرج السلطانة إلى شرفتها تتأمل الكون وتودع الشمس وهي تلبس عباءتها الصفراءمستعدة للنوم خلف الأفق، وقع بصرها على السائل يرفع يده نحوها، فاقشعر جسمها وأحستبشعور غريب يغمرها، طلبت من الحراس إدخاله إلى الساحة... نزلت من الطابق العلويمسرعة واقتربتَ منه فتعرفت عليه... نعم هو أبوها العجوز.. عانقته فاحتضنها وبكيا،أطعمته حتى شبع وسقته حتى ارتوى وألبسته أزهى الثياب حتى دفئ وشعر بالراحةوالطمأنينة، وحدثته كثيراً عن رحلة العذاب والمتاعب فقال لها بصوت حنون:‏
-إن دوام الحال من المحال، وإن الله مع الصابرين.‏
وعندما أراد مغادرة القصر وضعت مرجانة في يده كيس فطائر محشوة باللحم ثمالتمست منه عدم فتح الكيس قبل الوصول إلى البيت مع حفظ سر وجودها عن زوجته وابنته.‏
وعاد الشيخ إلى زوجته وابنته فرحاً مسروراً وحائراً في أمر ابنه الغزالظريف... فتحت الزوجة وابنتها الكيس فإذا الذهب يتدفق من بين الفطائر، قطع تتساقطفتحدث رنيناً وتلمع فيتحول البريق إلى توهج يثير النفوس الطامعة.‏
طلبتالمرأة من زوجها الذهاب إلى السلطانة لشكرها رغبة منها في المزيد من الذهب، ولميمانع الشيخ لأنه تعود الطاعة والانصياع وعلم أن مقاومته لها ستبوء بالفشل لامحالة.. وفي اليوم الموالي ذهبا ترافقهما ابنتهما (عسلوجة)، وكم كانت المفاجأةكبيرة للزوجة وابنتها عندما تعرفا على السلطانة التي أكرمت ضيافتهم جميعاً، ندماوطلبا منها على العفو وكان لهما ذلك.‏
وبعد ضيافة ثلاثة أيام قرر الشيخالعجوز أخذ زوجته وابنته (عسلوجة)، ومغادرة القصر خشية وقوع ابنته السلطانة ضحيةمكر جديد تدبره لها زوجته... وعندما علمت السلطانة مرجانة بقراره وافقته لكنها طلبتمنه السماح لعسلوجة بالبقاء معها في القصر أياماً.. فكان لها ما أرادت..‏
** *‏
ذات ضحى يوم جلست السلطانة مرجانة في حديقة القصر على حافةالبئر تتأمل هندسته الرائعة وبجانبها أختها عسلوجة، ثم شرعت مرجانة في تسريح الشعرالذهبي، المتماوج الألوان، وأثناء ذلك استيقظ في قلب عسلوجة هاجس المكر القديمواشتعلت نار الغيرة في فؤادها فأظلمت الدنيا أمام عينيها، ولم تشعر بالراحة إلاّبعد أن دفعت بالسلطانة إلى أعماق البئر ثم عادت إلى جناح الخدم بالقصر هادئة النفسكأنها لم تفعل شيئاً، بل طلبت منهم سبع قدور لتقديم الغزال وجبة شهية توضع علىمائدة السلطان العائد من سفره البارحة فقط.‏
لكن الغزال عندما رأى ما رأىمن قدور نطق فزعاً وأسرع نحو جناح السلطان فأيقظه من نومه وهو يقول:‏
-دعوني... دعوني... أودع أختي، أذهب إليها في البئر، ثم افعلوا ما شئتم!!وأغمي عليه لعدة ساعات.‏
(يا خويا، يا ولد أما وبابا سبع قدور تتغالى سبعمواس تتسانى هكذا كانت السلطانة ترثي أخاها الغزال من داخل البئر باكية شاكية فيحزن، بعدما سمعت الحرس يتحدثون في أمر ذبح الغزال دون أن ينتبهوالها)، حاولتمناداتهم لكن حنجرتها لم تقو على التصويت لهول ما وقع لها عند رميها في البئر...حتى إنها وضعت حملها، توأمين داخل البئر،،، وبقدر فرحها الشديد بهما كانت خائفةعليهما من أذى الماكرين...‏
أعلن السلطان حالة الطوارئ في البلاد وأخبرالجيش بالكارثة فهلع كل من سمع الخبر، توجه الجميع للبحث عن زوجة السلطان في آبارالمدينة، بينما ذهب بنفسه إلى بئر عتيقة محفوفة بالحشائش في إحدى حدائق القصر، وقفينظر داخلها، وصل مسمعه صوت الألم المنبعث من أعماق البئر ممزوجاً بأنين الحزن وسمعصوت وليد يبكي صباه، لم يتمالك السلطان نفسه فحاول الارتماء في البئر لإنقاذ زوجتهالمشرفة على الهلاك لكن حراسه كانوا أسبق منه إلى دخول البئر المرعبة وبعد حين منالجهد والمعاناة خرج الجميع من البئر في حالة يرثى لها.‏
كان المشهدمؤثراً، والموقف عصيباً وكانت المفاجأة كبيرة عند رؤية الصبيين يتعلقان بثدييأمهما، احتضن السلطان زوجته النفساء مع الصبيين، احتضنهم جميعاً ثم حمل الطفلينالجميلين بفرح كبير وأعلن إنهاء حالة الطوارئ وإقامة الاحتفالات في كل الأقاليمتكريماً لزوجته ولبنيه... وكان عقاب الفتاة عسلوجة على فعلتها الشنعاء النفي الدائمخارج السلطنة، بينما اختار والد السلطانة مرجانة البقاء قرب حفيديه الصغيرينيرعاهما ويتأمل نموهما.‏
تزامنت الاحتفالات بوضع العلماء والأطباء اللمساتالأخيرة لبحوثهم وتجاربهم حول إبطال مفعول الماء المسحور.‏
وفي غمرة البهجةوالسرور بنجاة السلطانة من الموت المحقق وبازدياد الأميرين الصغيرين أعلن العلماءوالأطباء والحكمة عن اكتشاف دواء جديد يعيد للشاب ظريف الغزال هيئته البشرية الأولىالتي كان عليها قبل أن يشرب من وادي السحر، فأطرب هذا الخبر العائلة الحاكمة وكل منكان في البلاد، وقدّم العقار إلى الغزال ظريف في الحين وبمجرد تناوله مع جرعة منزيت الزيتون بدأت صفاته الجسمية تتغير والعلماء يشاهدون.‏
كانوا جميعاً فيالمخبر الملكي في صمت رهيب كأن الطير على رؤوسهم وما هي إلاّ دقائق حتى عاد الشابإلى حالته الطبيعية. إنسان جميل، شاب في مقتبل العمر،، بهي الطلعة وسيم الوجه،،،فازدادت الفرحة في القصر وتعانق الجميع، السلطان مع السلطانة والشيخ وابنه ظريفومعهم الصبيان الصغيران...‏
تنفست الجدة (زينب) الصعداء وهي تشرف على نهايةالحكاية الأسطورة، ثم قالت:‏
-وهكذايا أحفادي الأعزاء،، عاش الجميع في سعادة وهناء ردحاً طويلاً من الدهر، إلى أن حضر"هادم اللذات وميتم البنين والبنات، مخرب القصور ومعمر القبور" فمات من مات وعاش منعاش وسبحان الحي الذي لا يموت)...‏
ثم تفقدت الصغار فوجدتهم نائمين، فنامتبالقرب منهم بعد أن قالت:‏
-هكذا ينامون كلّ ليلة وفي الليلة المقبلةيطالبونني بإعادة الحكاية، ثم استدركت قائلة:‏
-إنها الطفولة.... يحكمهاقانون عجيب!!‏