Language

نظرة في أسس الاقتصاد الرأسمالي 1


القيمة وفائض القيمة
  طبق ماركس على العمل النظرية التي طبقها على أي سلعة أخرى ، وخلص إلى أن قيمة قوة العمل تتحدد بكمية العمل اللازم لإنتاجها ، وعلى ذلك فإن رب العمل لا يعطي للعامل إلا القدر اللازم لاستمراره (واستمرار جنسه) حتى يعمل ، ويحتجز لنفسه الفرق بين قيمة المنتجات وقيمة قوة العمل ، وهو ما يعرف (بفائض القيمة) وقد استخدم ماركس فائض القيمة للهجوم على الرأسمالية .
          لقد اعتبر كارل ماركس العمل سلعة تباع وتشترى شأن غيره من السلع . فالعامل يبيع قوة عمله لرب العمل . وعلى ذلك تكون له شأن بائع أية سلعة أخرى قيمة المبادلة ، وينزل عن قيمة الاستعمال (أي ذات العمل) التي أصبحت ملكا لرب العمل ، أي للمشتري . وعلى ذلك خلص ماركس إلى أن العامل تكون له قيمة قوة العمل لا قيمة ناتج العمل ، أي خلص إلى أن الأجر هو ثمن قوة العمل لا ثمن المنتجات . وعلى ذلك فإن الأجر يتحدد في نظره بقيمة قوة العمل ، لا بقيمة المنتجات .
          لقد فرق ماركس بين العمل وقوة العمل ، ويعني بقوة العمل قدرات المرء الجسمانية والذهنية على أداء العمل . وإذا أصبحت قوة العمل سلعة تباع وتشترى لهذا فقيمتها تحددها (تكاليف إنتاجها) أي يحددها العمل اللازم لإنتاجها ، ويقصد بهذا وقت العمل اللازم لإنتاج وسائل العيش اللازمة للإبقاء على حياة العامل وأسرته .
          والفرق بين هذا الحد الأدنى اللازم للإبقاء على العامل وأسرته ، وبين قدرة العامل الإنتاجية عندما تستخدم في العمل يظهر على هيئة (فائض قيمة) وهذا هو سر تجميع أو تكوين رأس المال .

مناقشة القيمة عند ماركس

انطلق ماركس من قاعدة حقده على الرأسمالية ، وعدائه لمن يقول بالملكية الخاصة ، متأثرا في ذلك بالواقع الذي تعيشه أوروبا . ثم تناول الرأسمالية في قواعدها وفروعها ، واستعمل ذكاءه في تفنيدها ومن ثم تحطيمها .
          وإذ نحن بصدد بحث القيمة – فقد ابتدأ في بحثه للقيمة من حيث بدأ سميث ثم ريكاردو ، أي قال بأن قيمة السلعة هو مقدار العمل المبذول فيها سواء العمل المباشر أو غير المباشر (المختزن) كما يقول ريكاردو . ولكنه وهو يقول بإلغاء رأس المال ، وانتفاء ما يسمى بالربح أو الفائض الذي يتكون منه رأس المال ، فرق بين القيمة ، وفائض القيمة . كما إنه وإن اعترف بضرورة وجود المنفعة ، إلا أنه لم يعتبرها عند تقديره للقيمة ، كما فعل ريكاردو . وركز على العمل فقط . ثم إن تفريقه بين العمل وقوة العمل ، كان مدخلا له لإيجاد فائض القيمة الذي يتكون منها الربح لصاحب العمل ، والذي هو (أي الربح) أساس لتكوين رأس المال .
          وعندئذ نادى بالعمال – إن أصحاب العمل يظلمونهم باستئثارهم بالفائض الناتج عن عملهم وجهدهم ، بعد إعطائه ما يسد الكفاف كأجر لهم – حسب نظرية ريكاردو في الأجور.
          ولما قال ماركس : (إن القيمة هي العمل) بغض النظر عن تفريقه بين العمل البسيط والمضاعف – اجتهادا منه – فإنه يكون بذلك قد أهمل منتجات الطبيعة التي لا يداخلها عمل . فهي بناء على قاعدته ليس لها قيمة .
          وأحيانا يعتبر ماركس المنفعة ضرورية للقيمة ، وشرطا أساسيا لها ، ولكنه من ناحية أخرى لا يعتمد عليها في تفسير القيمة ولا في قياسها فهو يقول : (من المؤكد أننا لا نأخذ في الاعتبار قيمة استعمال المنتجات ونحن بصدد مبادلتها بغيرها) .
          ونلاحظ هنا مغالطة منطقية ، مضمونها أن ماركس حينما أراد أن يبحث عن أساس القيمة ، أراد لها أساسا مشتركا بين الأموال . وقد رفض لهذا السبب المنفعة كأساس للقيمة ، لأنه وجد أن المنفعة لا تصلح أساسا مشتركا ، إذ هي تختلف من شخص إلى شخص آخر . ثم قال بالعمل كمفسر للقيمة ، وقدمه كأساس مشترك ، ونسي أن العمل يختلف شأن المنفعة فيما يرتبه من ألم (جهد) من شخص إلى شخص .
          وكيف يقول ماركس : (إن المنفعة ضرورية للقيمة ، وبأنها الدعامة المادية لها) ثم لا يدخلها في تفسير القيمة ولا في قياسها ؟!
          ونظرية ماركس هذه وهي : (كمية العمل) فيها ابتعاد عن الواقع إذ كثيرا ما لا تتناسب قيمة المبادلة أي : (الأثمان النسبية) مع كمية العمل المبذولة في السلعة ، فليس من الضروري أن تكون أكبر الأشياء قيمة أكثرها تضمنا لعمل . فمن ناحية توجد أشياء تقتضي كمية كبيرة من العلم ، وتكون قيمتها منخفضة . كما توجد من ناحية أخرى أشياء لا تقتضي إلا كمية قليلة من العمل ، وتكون قيمتها مرتفعة . وكذلك توجد أشياء تقتضي كمية واحدة من العمل ولكنها تختلف في القيمة ، ويمكن أن نفسر هذه الأوضاع السابقة باختلاف منفعة الأشياء .
          وأخيرا فإن بحث القيمة ومناقشتها يأتي فيما بعد .
1-             النظرية (التقليدية) :
لقد بنى التقليديون بحثهم في نظرية القيمة على الأسس التي وضعها آدم سميث ومن بعده ريكاردو . ولكنهم خالفوهما بأن فرقوا بتفسيرهم للقيمة بين قيمة الاستهلاك وقيمة الاستبدال ، وخلصوا إلى أن أساسهما ليس واحدا .
          فالتقليديون أمثال : (ستيورات ميل) و (كاري) وغيرهما قد أخذوا المنفعة بمعناها الكلي ؛ فقد اهتموا بمنفعة الشيء عموما أي ما يعرف بالقيمة المجردة ، ولم يهتموا بمنفعة الجزء النهائي منه ، أي أنهم لم يعترفوا بالمنفعة الحدية .
          أما بالنسبة لمنفعة الاستبدال فقد فرقوا بين الأشياء القابلة لإعادة إنتاجها وقد تحدثنا عنها سابقا – وخلصوا إلى أن القيمة الأولى تتوقف على نفقة الإنتاج ، وإلى أن قيمة الثانية تستقل عنها .
          …… وأخيرا يتضح أن النظرية التقليدية تفرق بين قيمة الاستعمال وتفسرها بالمنفعة ، وقيمة مبادلة الأشياء غير القابلة لإعادة إنتاجها وتفسرها بالندرة النسبية ، وقيمة مبادلة الأشياء القابلة لإعادة إنتاجها وتفسرها بنفقة الإنتاج ، أي بالعمل ورأس المال .
          هذه الحالة الأخيرة في النظرية التقليدية يسمونها نظرية (نفقة الإنتاج) .
 (الثمن)
يتحدد الثمن بتلاقي العرض والطلب ، ونقطة التلاقي هذه هي وحدها التي تحقق التوازن ، التوازن بين الكمية المعروضة ، والكمية المطلوبة ، وهي وحدها التي تحقق التوازن أي توازن الثمن .
          ثمن التوازن هذا لا يكون إلا واحدا : وهو وحده الذي يمكن أن يكون الثمن الفعلي والحقيقي للسوق ، وهو الذي يحقق أكبر كمية ممكنة من المبيعات .
          وهذا يرجع بدوره إلى المنافسة الكاملة . ومعنى وحدة الثمن أنه : لا يمكن أن يوجد في وقت واحد ، في سوق واحدة ، عدة أثمان لسلعة واحدة ، وعلى ذلك فالحديث عن وحدة الثمن يفترض إذن : وحدة الزمن ، ووحدة السوق ، ووحدة السلعة . وإذا تخلف أحد هذه الشروط فلا مجال للحديث عن وحدة الثمن أو توازن الثمن .
          وتفسر وحدة الثمن في المنافسة الكاملة بذرية[1] ، العرض والطلب وبحرية الدخول والخروج وحرية التنقل داخل السوق ، وبتوافر شرط العلم ، وبتجانس السلعة.
          لأنه إذا حدث ورغب أحد البائعين في بيع سلعته بثمن أعلى مما يبيع به الآخرون ، فإن المشترين ينصرفون عنه إلى الآخرين ، مما يحمله على خفض ثمنه ومن ناحية أخرى لا يكون هناك مسوغ لأن يبيع أي منتج بثمن أقل من ثمن السوق ، إذ ليس من صالحه تخفيض الثمن عن ثمن السوق ، لأنه يفترض أنه يستطيع بيع أي كمية من الإنتاج يريد بيعها بثمن السوق ، ولأن التخفيض في الثمن يؤدي إلى تخفيض الربح الكلي .
وعلى ذلك لا يمكن أن يكون في سوق المنافسة الكاملة إلا ثمن واحد .
          وهذا هو الذي يسمى ثمن التوازن أي توازن العرض والطلب . ولا يمكن أن يتم توازن العرض والطلب إلا في سوق المنافسة الكاملة . وشروط المنافسة الكاملة
          أن يكون عدد كبير من البائعين ، وعدد كبير من المشترين ؛ بحيث لا يؤثر أحد من البائعين على واقع السوق إذا انسحب من السوق ، وكذلك إذا انسحب أحد المشترين . وهذا ما يسمى ذرية العرض وذرية الطلب ، وأن لا يكون هناك اتفاق بين البائعين أو المشترين ، وأن يكون العلم لدى البائعين ولدى المشترين متوفرا على واقع السوق ، وهذا مع وحدة السلعة ، ووحدة الزمن .
          بعد كل هذا تقول الدراسات عند الاقتصاديين : إن أي ثمن أعلى من ثمن التوازن سينخفض إليه تلقائيا نتيجة لميكانيكية العرض والطلب . كما أن أي ثمن أقل من ثمن التوازن يرتفع إليه تلقائيا نتيجة لميكانيكية العرض والطلب . فثمن التوازن هو وحده الثمن الفعلي للسوق .
((حول العرض والطلب والثمن))
تقوم قوى السوق وهي : العرض والطلب والثمن في النظام الرأسمالي :
1.       بتوزيع الموارد المنتجة على فروع الإنتاج المختلفة ، أي على المنتجين . فالمنتج الذي يستطيع دفع ثمن الموارد المنتجة يمكن أن يحصل فيها على ما يريد ، وأن يحرم غيره من المنتجين الذين لا يستطيعون دفع الثمن .
2.        تقوم بتوزيع المنتجات على المستهلكين . فالمستهلك الذي يستطيع دفع ثمن سلع الاستهلاك يمكن أن يحصل منها على ما يريد وأن يحرم غيره منها .
((دور الثمن))
          إذا حدث عدم توازن في سوق عوامل الإنتاج ، أو في سوق أموال المستهلكين ، بين العرض والطلب ، فإن تغيرات الأثمان تعيد التوازن بينهما .
          فإذا حدث وارتفع طلب المنتجين على عوامل الإنتاج عن عرضها ، أو طلب المستهلكين على أموال الاستهلاك عن عرضها ؛ فإن الثمن يرتفع بحيث يزيد العرض ويقل الطلب حتى يتساويا ؛ وإذا حدث وانخفض هذا الطلب عن العرض فإن الثمن ينخفض ، بحيث يعيد التوازن بينهما .
          من هنا يتضح أن الثمن هو الذي يوزع عوامل الإنتاج بين المنتجين ، ويوزع أموال الاستهلاك بين المستهلكين ، وأن تغيرات الأثمان هي التي تقيم التوازن في السوق عوامل الإنتاج ، وفي سوق أموال المستهلكين .
          ويبقى أن نلاحظ أن قوى السوق تعكس رغبات المستهلك ، بمعنى أن الإنتاج نوعا وكما يتجه إلى تلبية هذه الرغبات .
          أي أن زيادة طلب المستهلكين على سلعة معينة تؤدي إلى رفع ثمنها مما يؤدي إلى زيادة إنتاج هذه السلعة . وهو ما يستلزم بالتالي تخصيص جزء أكبر من الموارد المنتجة لإنتاجها .
          فكأن المستهلك – كالثمن – يتحكم في النهاية في تحديد الإنتاج كما ونوعا أي في توزيع الموارد المنتجة على فروع الإنتاج .
المشكلة الاقتصادية (مناقشة)
          ليست ظاهرة الندرة النسبية هي المشكلة الاقتصادية . وذلك لأنهم بنوها على أسس خاطئة ، وانطلقوا عن قاعدة فاسدة ، إذ قالوا إن الحاجات عند الإنسان متجددة ومتعددة فهي غير محدودة ، ووسائل الإشباع من سلع وخدمات مهما كثرت فهي محدودة .
          هذا القول خطأ ومخالف للواقع . وتفصيل ذلك : أنه لا بد أن نفرق بين حاجات الإنسان الأساسية ، وبين حاجاته الكمالية . فحاجات الإنسان الأساسية ثابتة لا تتغير ، لا تزيد ولا تنقص ، وهي التي تتطلب الإشباع الحتمي ، فهي محدودة وتكاد تكون محصورة في المأكل والملبس والمسكن ، فتبقى هي هي مهما حصل من تقدم تكنولوجي أو تطور في وسائل العيش ، ومهما تجددت وتعددت وسائل الإشباع فالحاجات الأساسية تبقى محدودة ، وبالتالي إشباعها لا يولد أية مشكلة ، ولا يوجد أية عقبة . وعدد الناس محدود ، وقد تكفل الله تعالى بأن يرزق كل دابة على الأرض ، قال تعالى : ]وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها …[
          ففي العصور البدائية كان الإنسان يسعى منطلقا لإشباع هذه الحاجات ، ولم تكن لديه أية مشكلة في إشباعها ، وكذلك في عصور الرعي واقتناء المواشي ، ثم عصور الزراعة واستثمار الأرض ، الحال هو هو لم يتغير ، وإلى التقدم الصناعي فعصور الرقي والمدنية والتقدم ، حتى عصر السرعة وغزو الفضاء ، والحال في إشباع هذه الحاجات الأساسية لم يتغير .
          أما ازدياد الحاجات أي الرغبات بزيادة التقدم الصناعي والتطور التكنولوجي ، فإن هذا إنما يظهر بالنسبة للحاجات الكمالية فقط ، وأما الحاجات الأساسية فلا زيادة عليها ، وتبقى ضمن محدوديتها . وعدم إشباع الحاجات الكمالية لا يطرأ عنه أية مشكلة البتة .
          ومع هذا التقدم الصناعي المذهل فإن الإنسان هو الإنسان ، لا يتغير ولن يتغير ، وحاجاته تبقى هي هي ، فلو قمنا بعملة مسح جيوسكاني على هذا العالم المترامي الأطراف ، أي لو تناولنا هذه الكرة الأرضية ، في مجموع سكانها ، واختلاف مناطق عيشهم وسكنهم ، وطراز ونوعية حياتهم ، لوجدنا التباين الشاسع في وسائل العيش من حيث وفرتها وكثرتها في مناطق ، وقلتها وشحها في مناطق أخرى ، ولكن لا توجد هناك أية مشكلة اقتصادية فيما يتعلق بإشباع الحاجات الأساسية .
          ولكن الاقتصاديين الغربيين عندما بحثوا هذا الإنسان من زاوية مادية ، ولم يفرقوا بين الحاجات الأساسية ، وما بعدها من الحاجات العادية ، والكمالية ، قالوا بأن الحاجات غير محدودة ، وهذا الكم الوفير من السلع والخدمات يبقى قاصرا عن إشباع هذه الحاجات غير المحدودة ، فتبقى المشكلة الاقتصادية قائمة .
          وتطلعات بسيطة ، ودراسات أولية ، بل وأمثلة حية من واقع المجتمعات المختلفة في أنظمة عيشها ، نستدل بالقطع واليقين أن ما بنوا عليه نظرياتهم الاقتصادية هي قواعد خاطئة وفاسدة وغير صحيحة ومخالفة للواقع .
          فلو نظرنا إلى واشنطن ونيويورك ولندن وباريس وغيرها لوجدنا سكانها يملك كل فرد من أفراد العائلة سيارة أو أكثر مثلا ، ثم لو أتينا إلى الأرياف في مناطق الشرق الأوسط وفي القرى والبوادي ، وفي أفريقيا وشرق آسيا ، لوجدنا المئات والآلاف لا يملكون سيارة واحدة ، فهل هذا أوجد عندهم مشكلة ؟ هل كان لهذا تأثير على إشباع حاجاتهم الأساسية ؟ طبعا ، لا .
          فالخطأ الأساس عندهم هو عدم التفريق بين الحاجات الأساسية وغيرها من الحاجات الكمالية . فلا يوجد عدم محدودية في الحاجات بل الحاجات محدودة والسلع والخدمات أي وسائل الإشباع دائما أكثر بكثير من الحاجات في كل بيئة وفي كل عصر من عصور البشرية . فلا مشكلة البتة .
          فوسائل الإشباع من سلع وخدمات كثيرة جددا تكاد تضيق بها المخازن وتكتظ بها الأسواق ، مع وجود الفقر المدقع ، وعيش الكفاف ، وهذا يعود إلى الإساءة في التوزيع ، وعدم تطبيق نظام اقتصادي ، يضمن توزيع هذا الكم الهائل من السلع والخدمات على أفراد المجتمع . فردا فردا ليتم الإشباع الكلي . فالمشكلة هي في التوزيع فقط .
          فالحاجات في الإنسان فطرية . فكل إنسان من بني البشر يندفع تلقائيا باحثا عما يشبع حاجاته ؛ فلما قلنا إن الحاجات الأساسية هي المأكل والملبس والمسكن ، كان الإنسان وهو يعيش في العصور البدائية يبحث عن الكهوف فيتخذها مأوى ومسكنا ، ثم سكن في الأكواخ ، واتخذها مأوى له ، وكان يشعر بالراحة والطمأنينة وهو ينام في كهفه أو كوخه . وبعد أن قام بتشييد البيوت وتفنن في هندستها وبنيانها ، كان الإشباع لحاجته للمأوى واحدا سواء في القصور المشيدة أو في الكهوف والأكواخ .
          وكذلك بالنسبة لحاجته للمأكل ، فكان اندفاعه فطريا وتلقائيا ، يصطاد الحيوانات والأسماك ، ويأكل مما تنبت الأرض من نباتاتها الوفيرة وثمارها المتنوعة ، فكانت حاجاته للمأكل مشبعة إشباعا يوفر له الطمأنينة والراحة تماما كما يوفر لنفسه اليوم الوجبات الدسمة والشهية سواء بسواء .
          يقول الله سبحانه وتعالى : ]فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم[ .
          ويقول جل من قائل : ]والله جعل لكم بيوتكم سكنا ، وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين . والله جعل لكم مما خلق ظلالا * وجعل لكم من الجبال أكنانا ، وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر ، وسرابيل تقيكم بأسكم ، كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون[ .
          وأما حاجة الإنسان للباس ، فكان يندفع فطريا ليستر ما يلزم ستره من جسمه ، أو ما يلزم مما يقيه البرد القارص أو الحر الشديد ، ولم يجد في ذلك أية مشكلة . تماما كما يشبعها بوسائل الإشباع المعاصرة ؛ فنومه على التراب كنومه على القش والحصير والفراش الوثير والسرر كل ذلك يجعل من نومه نوعا واحدا يوفر له الراحة والهدوء والاطمئنان . كما كان يندفع تلقائيا وفطريا باحثا عما يستر به عورته وسوءته ، أو ما يلزم لوقايته من البرد الشديد أو الحر الشديد ؛ وقد عرف اللباس والكساء مع فجر التاريخ ، كما عرف البنيان من قبل التاريخ أيضا . فهذه القصور القديمة الشاهقة ، والأهرامات وهياكل العبادة لا تزال ماثلة ، وبقاياها تدل على أن حاجات الإنسان من المأوى واللباس والمأكل كانت مشبعة دون أن يكون هناك آلات أو تكنولوجيا أو تقدم صناعي ، ولم يرو لنا التاريخ أية مشكلة حصلت جراء إشباع هذه الحاجات الأساسية ولا غيرها .
          فلا مشكلة إذن البتة فيما يتعلق بحاجات الإنسان الأساسية ، لا في العصور القديمة ولا في العصر الحديث . أما ما نراه اليوم من المجاعات في أفريقيا وبعض دول آسيا ، فإن هذا نتيجة سياسة النظام الرأسمالي ومنه الاستعمار ، ونتيجة المذابح التي يدبرها دول الغرب المستعمرة ، وأمريكا من أجل نهب خيرات وثروات واستغلال الموارد في تلك البلاد . فهذه الحروب والمذابح الجماعية ، أنتجت موجات من المهجرين الذين لا يجدون المأوى والمأكل . فيهرع المتصارعون على النفوذ والمتسابقون على المنافع لمدهم بالمساعدات الغذائية والمواساة الإنسانية كما يزعمون . تماما كمن يعلف الحيوانات استعدادا لذبحها .
          فكما أنهم أخطأوا في المشكلة وحقيقة واقعها أخطأوا أيضا في علاجها فقولهم إن ندرة السلع والخدمات بالنسبة للحاجات أي أن السلع والخدمات محدودة ، فلا تكفي إشباع الحاجات غير المحدودة . إذن تبقى المشكلة قائمة ولا حل لها . هذا الخطأ أدى إلى الوصول إلى علاج للمسألة أكثر خطأ . فانحرفوا وتفرقت بهم السبل ، وانصبت جهودهم على تكثير السلع والخدمات ، وتكثير الإنتاج ، لتكون في متناول يد الجميع ، أي أن تكون متوفرة في السوق بغض النظر عن أن يتناولها جميع الأفراد أو جلهم أو بعضهم . ولم يبحثوا في إشباع حاجات جميع الأفراد فردا فردا إشباعا كليا ، لأن هذا يرونه مستحيلا . فلجأوا إلى طرح كميات وفيرة من السلع والخدمات في السوق ظنا منهم أن قاعدة حرية التملك ، وحرية العمل ، تمكنهم من إشباع حاجاتهم كمجموعة لا كأفراد واحدا واحدا .
ولم يدُر بخلدهم أن تكثير السلع والخدمات في المجتمع بين الناس شيء ؛ وأن توزيعها شيء آخر ، وأن تكثير السلع والخدمات وتنميتها وتوفيرها في السوق بحث في واقعها وفي مادتها ، وهذه الناحية يتناولها علم الاقتصاد . وفرق شاسع بين علم الاقتصاد ، والنظام الاقتصادي . فتوزيع السلع والخدمات وسائر المنافع على أفراد المجتمع إنما يعالجها النظام الاقتصادي . والنظام الاقتصادي ، هو أفكار وأحكام تتعلق بفهم الواقع ، وعلاج المشكلة ، أي تنزيل الفكر أو الحكم على واقع المشكلة لفهمها وعلاجها . وبالتالي لا بد أن يكون هذا النظام منبثقا عن وجهة النظر في الحياة ، فيصبح خاصا لأنه مرتبط بعقيدة الأمة وعن وجهة نظرها في الحياة .
          أما علم الاقتصاد فإنه عام وعالمي يبحث في المادة ، وتحليل المادة وتكثيرها وتنميتها حسب الوسائل التقنية الحديثة ، فهو في أمريكا وفي روسيا والصين والهند وغيرها سواء . وبذلك ، وبهذا الخلط بين علم الاقتصاد والنظام الاقتصادي ، ودمجهما مع بعضهما زادوا المشكلة تعقيدا ، أي كونهم أوكلوا توزيع المنافع والخدمات على أفراد المجتمع ، أوكلوه للبحث العلمي ، أي البحث المختبري التجريبي البحت ، واعتبروا أنفسهم أنهم نجحوا في ذلك حيث إنهم رأوا السلع والخدمات ووسائل الإشباع متوفرة في الأسواق ، وأدوات الإنتاج والمصانع تغرق السوق بتنافسها وجشعها ، أرادوا بعد هذا كله أن يخرجوا الجمل من ثقب الإبرة ، فقالوا بأن قاعدة حرية التملك ، وقاعدة حرية العلم هما الكفيلتان بتوزيع هذه الثروات ، وتوزيع هذه المنافع والخدمات على مجموع أفراد المجتمع .
          ثم عمدوا إلى معالجات سلبية تساعدهم على حل هذه المشكلة الاقتصادية ، بعد أن اصطدموا بما أسموه النمو السكاني ، أو المشكلة السكانية ؛ فرأوا استحالة العلاج للمشكلة الاقتصادية دون أن يعالجوا المشكلة السكانية المتفاقمة أولا .
          يقول (مالتوس) صاحب النظرية الشهيرة : إن قدرة الإنسان على التناسل أكبر من قدرة الأرض على إنتاج ما يلزم لبقائه . ولذلك خلص (مالتوس) إلى أن نسبة تزايد السكان تختلف عن نسبة تزايد الطعام ؛ فالسكان يتزايدون في نظره – عند انعدام العوائق – بمتوالية هندسية ، أي يتزايدون بمقدار الضعف كل (25) عاما . بينما تتزايد المواد الغذائية – عند انعدام الموانع – بمتوالية حسابية ؛ أي بالكمية نفسها في المدة نفسها ، فكأن نسبة التزايد تكون كما يلي :
السكان -1     2       4       8       16     32     64     128   256
المواد الغذائية      -1     2       3       4       5       6       7       8       9
          فالسكان يرتفعون إلى 16 مثلا في قرن ، بينما لا ترتفع المواد الغذائية في المدة نفسها إلا خمسة أمثلة . وخلص مالتوس بعد ذلك إلى ما يسمى (قانون الضرورة) الذي يعالج هذه المشكلة ليتم التعادل تلقائيا بين القوتين .
          وتفصيل ذلك : أن الإنسان لا يمكن أن يعيش بلا طعام ، فإذا تزايد عدد السكان بنسبة أكبر من نسبة تزايد الطعام ، فلا بد أن تتدخل الطبيعة ، وتفعّل قانون الضرورة ، فتحدث المجاعات وتنتشر الأوبئة ، وتضعف صحة المواليد ، وتقوم الحروب ، مما يخفض عدد السكان إلى الحد الذي تسمح به المواد الغذائية .
          فكأن التعادل يتم تلقائيا عن طريق التغيرات في معدل الوفيات الشيء الذي لا يتوقف على إرادة الإنسان – فهو إذن يواجه حل مشكلة عدم التعادل بين السكان والمواد الغذائية من ناحية العنصر البشري ، لا من ناحية المواد الغذائية .
          إذن هم يرون اللجوء إلى اتخاذ الإجراءات السلبية مشاركة في علاج المشكلة الاقتصادية . فقالوا بضرورة وجود الحروب ، وبضرورة اللجوء إلى الزواج في سن متأخرة ، وبضرورة التقليل من النسل ، إما باللجوء إلى الخطيئة بالإبقاء على نسبة ضئيلة من المواليد ، وإزهاق حياة النسبة الأكثر عند الولادة بطرق ملتوية ، وإيعازات خفية . ثم اللجوء إلى توزيع موانع الحمل ، بالمجان والتشجيع على استعمالها ولو ببذل مكافآت للتقليل من المواليد ، وبخاصة بين الأسر الفقيرة وفي المجتمعات المتخلفة ، والدول النامية . كما أنهم يرون أن الطبيعة لها دور هام في انتشار الأوبئة وفتك الأمراض .
          وهناك عوامل أخرى تساعد على حل المشكلة من جانب سلبي ، منها الكوارث الطبيعية كالزلازل ، والفيضانات ، والأعاصير ، وموجات العواصف الثلجية ، وموجات الحر القاتلة ، كل هذه عوامل مساعدة – في نظرهم – على حل المشكلة الاقتصادية بالتقليل من النمو السكاني المتسارع .
          فكم حصدت الكوارث الطبيعة من الجنس البشري !! كم حصدت الزلازل في إيران وأفغانستان وروسيا وتركيا والمكسيك من بني البشر وكم حصدت الفيضانات والأعاصير والعواصف الثلجية في بنغلادش وبعض المناطق في شمال أوروبا والولايات الأمريكية ، وكم حصدت موجات الحر القاتلة من بني البشر في الهند ، وفي مكة المكرمة في مواسم الحج .
          كل هذه الكوارث يرونها عاملا مساعدا في إيجاد التعادل تلقائيا بين القوتين : قوة النمو السكاني ، وقوة النمو الغذائي حسب نظرية مالتوس .
          وكذلك هناك رأي متطرف لهذا القس الإنجليزي (مالتوس) الذي كان أستاذا للتاريخ والاقتصاد السياسي في جامعة كمبردج ، إذ يقول بلجوء الإنسان إلى إشباع غريزة الجنس عن غير الزواج هروبا من التناسل ، مع أنه تزوج وأنجب بنتين وولدا (1766 – 1834) .
          فكانوا بلجوئهم إلى النظريات العلمية والوسائل التقنية يرون أن الحل لهذه المشكلة الاقتصادية يكون في تطبيق هذه النظريات والوسائل .
          أما لجوؤهم إلى قاعدة حرية التملك وحرية العمل كفيلة للتوزيع ، فإنها قد فتحت عليهم أبوابا أخرى زادت من تعقيد المشكلة لا حلها .
          أما قاعدة حرية التملك فإنها تعني إزالة القيود التي تنظم التملك ، أي كسروا العوامل التي توجد التوازن في المجتمع اقتصاديا ، وانفلت الجشعون والمحتكرون الذين يتفننون في ابتكار الحيل والأساليب لتنمية ثرواتهم واستثمار أموالهم ، فظهر في المجتمعات الغنى الفاحش ، والفقر المدقع ، ووجد أصحاب المليارات والأملاك والعقارات ، كما وجد الذين يتناولون طعامهم من حاويات القمامة . كل ذلك لأن المشكلة عولجت بواسطة علم الاقتصاد لا بالنظام الاقتصادي ، وبحرية التملك وحرية العمل ، لا بالضوابط والمفاهيم التي تنظم كيفية التملك ، وكيفية التصرف في هذه الملكية ، وأهملوا ورفضوا تطبيق قاعدة التوازن في المجتمع ، مثل عدم تداول المال بين فئة الأغنياء ، وتحريم كنز المال ، وحدود الملكية العامة ، وجهة توزيعها ، ووضع قواعد لإعانة العاجز وكفاية المحتاج ، وفرض حق في أموال الأغنياء يعطى للفقراء والمساكين . وتحريم الربا ، والغش والغبن – والاحتكار كل هذه الأحكام التي توجد التوازن في المجتمع وتمنع الطبقية أهملوها لأنها تتعارض مع القواعد الأساسية عندهم وهي الحريات الأربع ، وعلى رأسها الحرية الاقتصادية .
          وكان الخلط عندهم واضحا بين علم الاقتصاد والنظام الاقتصادي ، وذاب النظام الاقتصادي تلقائيا واندمج في علم الاقتصاد .
          أما نظريتهم الخاطئة إلى المنافع كما هي ، لا كما يجب أن يكون عليه المجتمع فنقول :
          كل ما يرغب فيه – في نظرهم – هو منفعة إذا على المنتجين أن يلبوا رغبات المستهلكين بتوفير السلع والخدمات أي المنافع التي يشبعون بها حاجاتهم ورغباتهم ، سواء كانت هذه المنافع خمرة أو حشيشا أو أفيون ، وسواء كانت هذه الخدمات مسارح رقص وراقصات ، أو كانت مهرجانات تمثيل رخيص وغناء . أو بيوت دعارة .
          ولكن لما كان هؤلاء الأفراد أصحاب هذه الرغبات وأمثالهم أجزاء في مجتمعهم أي إن عيشهم في مجتمعهم يشكل لهم إطارا عاما لا يخرجون عنه سواء من حيث الأفكار التي يتشكل بها المجتمع ، أو العلاقات التي تنظم هذا المجتمع ، وبالتالي فإن المجتمع كما هو بأفكاره ونظامه هو الذي يفرض على أفراده شكلا من العيش ونوعا من العلاقات ، وهذه كلها تنبثق عن عقيدته ووجهة نظره التي يدين بها أفراد المجتمع فيكون بذلك قد اصطلح على محظورات لا بد من الابتعاد عنها ، كما اصطلح على أساسيات لا بد ممن الالتزام بها والمحافظة عليها ، وخروج أي فرد من الناس الموجودين ضمن إطار هذا المجتمع عن هذه الأساسيات أو تجرؤه على المحظورات ، يعني خروجا عن طراز العيش وهدما للعلاقات وإفسادا للمجتمع . وكذلك الذين ينتجون المنافع المحظورة بحجة أن هناك من يرغب فيها هو كسر لهذا الإطار ، وهدم لهذا الكيان ، كيان المجتمع الذي تشكل من الناس والأفكار وما يصحبها من مشاعر ومن العلاقات أيضا (النظام) كما هو استهانة بوجهة النظر عن الحياة التي قام على أساسها هذا البناء .
          فبدل أن تنتج المنافع التي يود من يرغب فيها ولو كانت تضر بالصحة أو تفسد الأخلاق أو تخالف القوانين ، بدل أن يسمح الاقتصاد الغربي بإنتاجها ، يجب أن يأخذ على أيدي هؤلاء الذين ينتجونها أولا ، والذين يتناولونها ثانيا .
          أما أن نطلق للاقتصاديين العنان في أن يقرروا مثل هذه التقريرات في إنتاج ما يرغب فيه ، واستهلاك ما يرغب فيه على إطلاقه ، فهذا هدم للمجتمع ، وإهدار للقيم ، وسحق للمثل العليا ، وتفريط بكرامة الإنسان .

القيمة وتقسيمها إلى نوعين

1.                 قيمة استهلاك .
2.                 قيمة استبدال .
تقسيم الاقتصاديين الغربيين القيمة إلى نوعين وهما : قيمة الاستهلاك ، وقيمة الاستبدال ، يعني أن القيمة نسبية وليست حقيقية ، أي هو تقسيم اعتباري لا ينطبق على واقع القيمة ، أي ليس تعريفا لواقع القيمة ، وليس وصفا لها .
          لأنها إنما هي قيمة تعرّف بالنسبة للمستهلك ، وقيمة تعرّف بالنسبة للاستبدال أي استبدالها بسلعة أخرى ، فهل هذا التعريف مطابق لواقع القيمة ؟ أي هل هذا حقيقة هو واقع القيمة ؟ الصواب أن هذا التعريف خطأ ومخالف للواقع إذ القيمة هي شيء حقيقي ثابت مشخص يشار إليه بالأصبع أنه كذا . وتفسير ذلك أن حقيقة قيمة الشيء المنتج أي قيمة السلعة أو الخدمة هو : مقدار ما فيها من منفعة ، مع ملاحظة عامل الندرة . وهذا المقدار من المنفعة هو خاصة إذا توفرت في الشيء جعلته صالحا للاستهلاك .
          وكلمة "خاصّة" نقول "خاصّة" وليست خاصّيّة : أننا عندما نأخذ الأشياء : السلع والخدمات لنستهلك ما فيها من منافع ، نضع ترتيب هذه الأشياء بمنافعها ، فنصطلح على ما يأتي – مع الاستعانة بالحقائق العلمية والاكتشافات الجديدة في المختبرات وغيرها مثل اكتشاف البروتينات والفيتامينات ، وتقسيم المواد التي يتطلبها الجسم إلى نشوية ودهنية وسكرية – بعد هذه الاكتشافات أخذنا نلمس بوضوح أن ما في حبة البطاطا غير ما في حبة البندورة وغير ما في البيضة ، كما أن ما في الشعير غير ما في القمح وغير ما في الأرز والشوفان . وهكذا مئات وآلاف الأصناف من السلع ، ومئات الأصناف من الخدمات . فالتنقل بالسيارة الصغيرة غير التنقل في الباص أو الحافلة الكبيرة ، وغير الطائرة ، ومعلم مادة الفيزياء غير مادة الرياضيات أو التاريخ وغيره ، والعامل في البناء غير العامل في النسيج ، وغير عامل التنظيفات في الشوارع ، والخبير الفني في الحاسوب غير الخبير في جيولوجيا الأرض أو المياه . هذه اختصاصات متعددة جدا . فلو أخذنا كل واحد من هذه على حدة لوجدنا فيه خاصّةً تميزه عن غيره تكمن فيها المنفعة التي يتم تقدير القيمة على أساسها ، وبالتالي فإن هذه الخاصة لها تأثير من حيث هي على المستهلك ، يبحث عنها ويطلبها ، ويرى من نفسه ارتياحا معينا أو متعة معينة عند الحصول عليها . فالخاصّة إذن هي علاقة بين المنفعة ومستهلك معين .
          مثلا نجلس على مائدة الإفطار ، فأحدنا يتناول رأسا من البصل ، وآخر يتناول رأسا من الفجل ، وثالث يتناول قرنا من الفلفل ، وهذا يبحث عن الزعتر أو الزيت ، وهكذا كل واحد يبحث عن خاصّة تلائمه يجدها في مثل هذه الأنواع . لقد أجريت تجارب على أطفال ، فكانوا يُدْخَلون إلى مطعم فيه أغلب المأكولات فيتناول كل طفل غير الذي يتناوله الآخر نوعا وكما وبعد الفحص للأطفال وجد أن كلا منهم يأخذ ما ينقصه في جسمه ، وبعد زمن ، صار التقارب واضحا بين ما يأخذه الأطفال وبخاصة للأنواع كاللحم والخبز والفواكه وغيرها .
          أما ما يسمونه (المنفعة الحدّيّة) فإنهم أخطأوا في التدرج في تفسير المنفعة إلى أن وصلوا إلى حد انتهى فيه الإشباع ، فقالوا : الآن نستطيع أن نضبط معنى القيمة ، أي عند الحد الذي انتهى فيه الإشباع عند آخر وحدة من وحدات هذه السلعة التي شاركت في الإشباع .
          نتساءل الآن : هل المنفعة الموجودة في الوحدة الأولى التي بدأنا بها الإشباع تختلف عن الوحدة الأخيرة التي تم عندها الإشباع ؟ بمعنى أوضح : هل المنفعة الموجودة في الوحدة (أ) تختلف عنها المنفعة الموجودة في الوحدة (ج) التي انتهى عندها الإشباع ؟ أي هل الرغيف الأول الذي بدأنا به إشباع جوعة المعدة تختلف منفعته عن الرغيف الثالث الذي تم عنده إشباع جوعة المعدة ؟ ومتى كانت الوحدات المنتجة من سلعة ما – مهما تناهت في الكثرة – يختلف واحدها عن الآخر ؟
          مثال على ذلك للتوضيح : لو أن خبّازا اشتغل في يوم واحد في فرن واحد وأنتج عشرة آلاف رغيف ، هل هناك فرق بين هذه الأرغفة حتى نقول إن منفعة هذا غير منفعة هذا؟
          نقول لهم : إن الصورة عندهم عكسية تماما ، حيث إن الذي يحصل هو أن شهية الإنسان الجائع تكون في بداية الأكل قوية ، فتكون أهمية الرغيف الأول عنده كبيرة حيث تنكسر به سَوْرة الجوع ، فالأهمية هي عند الجائع الذي بدأ في الإشباع ، سواء أكل رغيفا واحدا أم عشرة أرغفة ؛ فالأهمية هي عنده هو ، أما الأرغفة من الأول حتى العاشر ، وحتى الرغيف الخمسين كلها سواء ، المنفعة فيها واحدة فبدل أن يقولوا هذا ، جعلوا الأهمية في الرغيف ، وهي في حقيقتها عند من يتناول الرغيف ، وعلى هذا فلا يوجد ما يسمى عندهم (بالمنفعة الحدّيّة) .
          ولكنهم لما كانوا يريدون أن ينتجوا ما يتلاءم ومتطلبات السوق ، كان لا بد من أن يقوموا بدراسات توفيقية ليجعلوا إنتاجهم يتساوى مع الطلب حتى لا يؤول بهم السوق إلى الكساد في الكم الكبير من منتجاتهم ، وحتى يحصلوا على الثمن الذي يحقق لهم ربحا .
          فنظرية (المنفعة الحدّيّة) هي في حقيقتها عندهم نظرية للثمن ، من أجل تركيز الإنتاج عند نقطة معينة ، يضمن فيها استمرار الإنتاج متساويا مع طلبات الاستهلاك ، وبالثمن الذي يغطي نفقات الإنتاج مع بقاء ربح مقبول بعيدا عن الاحتكارات أو المنافسات غير الحرة أو غير الكاملة في السوق عاديا .
          أما فراغ السوق أو نقص السوق من منتجاتهم بحيث يؤدي إلى الإلحاح في الطلب مهما ارتفع الثمن ، فهذا غير وارد في الأسواق العادية ، لأنهم يركزون على الإنتاج ، ودراساتهم كلها منْصبّة على الإنتاج ، فالذي يخشونه فقط هو إغراق السوق بالسلع المنتجة ، مما يؤدي إلى كساد في السلع ، وضعف الطلب عليها فيؤول بهم الحال إلى الخسران ، ويكونون بذلك قد كسروا مقياسهم للأعمال في الحياة وهو (النفعية) .
          فالمنفعة الحدية في حقيقتها هي مدى الأهمية عند من يتناول وحدات سلعة ما يشبع بها إحدى جوْعاته ، وأما وحدات السلعة ذاتها فكلها سواء ، ومنفعتها متساوية ؛ ولكن الذي حدا بهم إلى هذا التفسير الخاطىء ، والتعريف المخالف للواقع ، هو تكثيف دراساتهم على تركيز الإنتاج وزيادته ، مع المحافظة على أثمان مريحة لتنمو ثرواتهم ، وتزداد دخولهم .
          ثم بعد ذلك ومن أجل هذا وسّعوا دراساتهم واهتماماتهم في هذا المجال ، وأخذوا يبحثون عن أسواق جديدة ، وخرجوا خارج حدود بلادهم ، وأوجدوا لهم مناطق نفوذ ، تكون أسواقا مهيئة لتصريف منتوجاتهم بالأثمان التي يفرضونها ، كما أن الدراسات نفسها قد فتحت أمامهم مجالا أكثر أهمية في الصراع وهو وجود الخامات المذهلة في مناطق النفوذ هذه ، فكان الاستعمار ، وكانت الحروب .
          فقد قامت الدول المستعمرة هذه بحماية المستثمرين والمنتجين وعملت على تأمين سلامة تنقّل منتوجاتهم ، كما عملت على ضمان استثماراتهم وتأمين أرباحهم وفوائدهم حتى من الضرائب أو الجمارك إلا بالقدر اليسير .
          فهذه الشركات العملاقة والتجمعات الاقتصادية ، والأسواق المالية والبورصات التجارية ، قد أصبح وجودها وبالا وشرّا مستطيرا على العالم بأسره . فأخذوا يفتعلون الحروب والمنازعات العرقية والحدودية ويغذّونها ، ويهيئون لها مواد وقودها من سلاح وغيره لتبقى مصانعهم دائبة الحركة ، فمصنع واحد من مصانع السيارات مثلا ينتج أكثر من ثمانين مليون سيارة …… وقس على هذا .
          إذا فالقيمة شيء حقيقي ثابت وليست شيئا نسبيا أو اعتباريا . أي هي حقيقة ثابتة لها واقع مشخص ، وهي : مقدار ما في الشيء من منفعة مع ملاحظة عامل الندرة .
          ولنأت الآن إلى جملة (ملاحظة عامل الندرة) عامل الندرة يؤثر في ارتفاع ثمن السلعة وانخفاضها ، ولا يؤثر في أصل تقدير الثمن للسلعة ، أي أن السلعة قليلة في السوق أو كثيرة لا يؤثر على أن لها ثمنا ، أو ليس لها ثمن ، فقلتها لا تجعل لها ثمنا ، وكثرتها لا تجعلها بدون ثمن ؛ بل كونها لها ثمن أو ليس لها ثمن راجع لما فيها من منفعة ، وليس لقلتها أو كثرتها . ومن هنا كانت قيمة الشيء هي مقدار ما فيه من منفعة ، بغض النظر عن كثرته أو قلته ؛ وكذلك كانت ندرتها ليست جزءا في تقدير ثمنها . ولكن بما أن قلتها تزيد ثمنها ، وكثرتها تنقص ثمنها ، كان لا بد من ملاحظة عامل الندرة ولكن مجرد ملاحظة دون اعتباره جزءا في التقدير .
          فالحقيقة أن القيمة للشيء هي مقدار ما في ذلك الشيء من منفعة عند التقدير مع ملاحظة عامل الندرة في ذلك الوقت الذي جرى فيه التقدير ، ودون اعتبار عامل الندرة جزءا في التقدير ، وبذلك يكون الاعتبار لمقدار المنفعة في الشيء وهو الأساس في التقدير .
          أما القيمة عند استبدال سلعة بسلعة أخرى أو بخدمة من الخدمات – إن قدرت منفعتها بمنفعة سلعة أو جهد كان هو التقدير الصحيح ، وكان تقديرا أقرب إلى الثبات في المدى القصير . وهذا أمر يستطيع أن يصطلح عليه الناس وفي كل الأزمان ، نتيجة لتجاري ذوي الخبرات . فتجدهم يخضعون ذلك للمساومة الدقيقة ، وكأنهم يساومون بالأثمان .
          فكانوا يستبدلون العنب بالزيتون ، والتين بالترمس والقرع بالخروب والزيت ويشترون حاجاتهم من الحوانيت بالقمح وبالذرة وبالبيض بدلا من النقود ، وكانت تقديراتهم لمنافع هذه الأشياء ، واستبدالها بعضها ببعض قريبة إلى الصواب .
          كل ذلك مبني على مقدار المنفعة التي في السلعة ، فمقدار المنفعة التي فيها هو الذي يتحكم في تقديرها ، وبالتالي يكون مقدار المنفعة هو وحدة القياس في المال والجهد.
          لكن السلعة أو الخدمة إن قدرت بالثمن يكون تقديرا اعتباريا لا تقديرا حقيقيا ، وتصبح حينئذ أقرب إلى التغير في كل وقت تبعا للسوق ، وحينئذ يبطل كونها قيمة ولا يصدق على واقعها حينئذ لفظ قيمة وإنما يصبح أداة يحصّل فيها نقود بحسب السوق لا بحسب ما فيها من منافع .
          فالمنفعة هي وحدة القياس سواء للسلع أو الجهود ، [2] والثمن هو مقياس التبادل ، ويكون مباشرة للمال ومباشرة للجهد . فالثمن هو للسلعة ، والأجر هو للجهد .
          فالقيمة غير الثمن ، وغير الأجر لأن القيمة ثابتة في حين أن الثمن والأجر كل منهما غير ثابت .
          والمنفعة تقدّر بذاتها للشيء بقطع النظر عن كونه موجودا بكثرة أو نادر الوجود . (ويكون التقدير في السلعة بالنسبة لمقدارها بشيء آخر من سلعة أو نقد أو خدمة ، وبذلك يكون الاعتبار منصبّا على مقدار البدل الفعلي من سلع أو خدمات أو نقود) .
          فمثلا تقدير قيمة صاع من القمح بمنفعة صاعين من شعير ، هذه القيمة ثابتة سواء أكان الشعير بكثرة أو كان نادرا ، وكذلك القمح سواء أكان موجودا بكثرة أو كان نادرا حتى لو كان ثمن الشعير أغلى من ثمن القمح ، فالندرة ليست جزءا من تقدير المنفعة في الشيء ، ولكنها تلاحظ عند تقدير القيمة . أذكر مثلا من واقع حياتنا التي عشناها ، ففي الحرب العالمية الثانية ، غلا ثمن التبن ، بحيث زاد أضعافا عن ثمن القمح ، فبدل أن يشترى كيلا صار يُشترى وزنا ؛ فكان أصحاب المحاصيل عندما يبيعون التبن لمن يتاجرون به يضعون معه شيئا من القمح من قبيل الغش ليزداد وزن التبن . هذا أمر شاهدناه ولمسناه .
          لكن الأمر في حقيقته ، هو أن قيمة القمح أكبر من قيمة التبن بكثير وإن كان التبن أغلى ثمنا . فغلاء الثمن مرتبط بالسوق من حيث العرض والطلب . وأما قيمة الشيء فتبقى هي هي ، وهي مقدار ما فيه من منفعة .
الثمن
الثمن هو تقدير المجتمع لقيم السلع ، والأجر هو تقدير المجتمع لقيم الجهود . والنقود هي الشيء الذي يُعبّر به عن هذا التقدير . وهي الشيء الذي يمكننا من قياس السلع والجهود المختلفة ، وردها إلى أساس واحد ، فتسهل عندئذ المقارنة بين السلع المختلفة ، والمقارنة بين الجهود المختلفة ، بردّها إلى وحدة هي المقياس العام ، ويجري دفع الثمن للسلعة ، وإعطاء الأجر للأجير على أساس هذه الوحدة .
          إذن فالنقود هي سلعة من السلع اصطلح عليها في شتى البلدان أن تقسم إلى وحدات لتصبح هذه الوحدات المقياس الذي تقاس به منفعة الشيء ومنفعة الجهد . واتفق أن تكون هذه الوحدات واسطة للمبادلة .
          وتقدر قيمة النقود بمقدار ما فيها من القوة الشرائية ، أي بمقدار ما يستطيع الإنسان الحصول بواسطتها على سلع أو جهود . وعلى ذلك فلا بد أن تكون للشيء الذي يعبر عن تقدير المجتمع لقيم السلع وقيم الجهود قوة شرائية حتى يكون نقدا ، أي قوة يستطيع كل إنسان بواسطتها الحصول على السلع والجهود .
          والأصل أنه لا بد أن تكون لهذا الشيء قوة ذاتية ، أو يستند إلى قوة ذاتية ، أي أن يكون هو نفسه ذا قيمة معتبرة عند الناس حتى يكون نقدا .
          إلا أن الواقع في إصدار النقود عند دول العالم اليوم أن منها من جعلت نقودها قوة ذاتية ، أو تستند إلى قوة ذاتية ، ومنها من جعلت نقودها نقدا اصطلاحيا أي تصطلح على شيء أنه نقد ، وتجعل فيه قوة شرائية .
          فالذهب والفضة لهما قوة ذاتية ، فتكون بذاتها نقودا كما تكون أساسا تستند إليه النقود ، بأن توضع كميات من الذهب والفضة كاحتياطي يوضع في خزينة الدولة ، يصدر مقابلها أوراقا نقدية تستند إلى هذا الاحتياطي وتمثله ، وتكون فيها ضمانة استبدالها إلى ما يعادلها من الذهب والفضة .
          إن العرض والطلب والثمن هي قوى السوق عند الغربيين ؛ فالغربيون لا يفصلون الثمن عن العرض ، فالثمن لذاته في الحقيقة ليس موضع الاهتمام ، لأن نظرتهم إلى الإنتاج من حيث زيادته ، واستمرار زيادته ، جعلتهم يراقبون السوق من زاوية مراقبتهم للثمن .
          والآن يعيش العالم في إنتاجه وصناعاته المختلفة في ظل شركات عملاقة ، وتحت مظلة تجمعات وتحالفات اقتصادية دولية ، تقذف إلى أسواق العالم كميات هائلة من إنتاجها ، تضيق به المخازن والأسواق وساحات العرض . فحتى لا يحصل التضارب بين المنتجين ، وحتى يضمنوا تقبل الأسواق لهذه المنتوجات والصناعات بشكل متوازن ، عمدوا إلى تشكيل لجان ، أو بالأحرى ، وجد عندهم شركات تختص بعملية مسح للأسواق وللمستهلكين وللسلع والخدمات ، وأيها عليه إقبال أكثر وطلب أكثر ، وأجروا حسابات وإحصائيات دقيقة لكل سلعة ولكل بلد ولكل سوق ، وخلصوا إلى نتيجة تصريف الأسواق ، واستهلاك السلع بالكميات والأرقام ؛ وتقوم هذه الشركات بدورها بتزويد شركات الإنتاج ومصانع السلع بهذه الإحصائيات والأرقام مقابل عمولة معينة .
          فكما جعلوا مقاييس لصرف الماء والكهرباء بتركيب ساعات وعدادات تعد الصرف والاستهلاك بالكيلوواط وبالأمتار المكعبة ، جعلوا للأسواق وتصريفها للسلع ولكميات الاستهلاك مقياسا دقيقا يحسبون به أنواع الأسواق وما وصلها من كميات السلع ، وما استهلك منها ، وما كان أكثر استهلاكا ، أو أقل طلبا ، وتوزع نتائج هذه القياسات والحسابات على الشركات صاحبة الشأن في ارتيادها للأسواق مقابل أجر معين . وهناك بعض الشركات يكون لديها مندوبون وظيفتهم متابعة الأسواق لدراسة ما يستهلك وما يتبقى أي ما يطلبه السوق وما يزيد عن طلبه أو ينقص من منتوجات تلك الشركات . فقد تنقص من إنتاجها أو تضاعفه حفاظا على استمرار عجلات مصانعها على الدوران لحفاظها على الثمن .
          وخلصوا بنتيجة نهائية أن الثمن هو صاحب الدور في توزيع السلع والخدمات على أفراد المجتمع ، وهو الذي يوجد التوازن بين الإنتاج والاستهلاك . وهو الذي تنتظم به عمليات العرض والطلب بصورة متكافئة .
          فبالثمن : آلية الثمن أو ميكانيكية الثمن ، يخيم على الأسواق الهدوء والاستقرار ، بتوازن العرض مع الطلب ، بحيث لا يبقى مجال للجشعين ولا للمحتكرين ، وبالمقابل يتساوى المستهلكون في إشباع حاجاتهم ورغباتهم بصورة تلقائية بلا تخمة ولا حرمان (كما يقولون) وتبقى عجلات المصانع دائبة الدوران ، ووسائل الشحن مُوْسقة بأحمالها ، وأرصفة الموانىء مكتظة ، بما يفرغ فيها من أصناف البضائع ، وتظهر على أعظم المستويات الدولية حركة اقتصادية نشطة ، يطمئن لها كبار المستثمرين ، يجلسون على عروش ممالكهم الإنتاجية الاحتكارية كالحيتان ، يأتيها صغار السمك ، فتتناوله طعاما سائغا .
          هذا هو المبدأ الرأسمالي ، وهذه هي الحرية الاقتصادية ، هذا هو مقياس الأعمال وهو (النفعية) هذه هي النظرة المادية للإنسان والحاجات الإنسان . وأولا وأخيرا هذه هي عقيدة فصل الدين عن الحياة .
مناقشة :
          نحن لا نسلم بصحة قولهم ، فهو خطأ محض مجانب للصواب ، ومخالف للواقع ؛ كيف يكون الثمن هو المنظم للتوزيع ؟ وبضمانة قاعدة حرية التملك ، وكفالة حرية العمل وحرية الإنتاج ، وأي إنتاج ؟ ومن المعلوم بداهة أن موضوع توزيع الثروة على أفراد المجتمع يكون بأفكار وأحكام تنظيم العلاقات وبجملتها وضع الخطوط العريضة والأحكام التفصيلية ليتم توزيع الثروة على الوجه الذي يضمن لكل فرد في المجتمع إشباع حاجاته الأساسية إشباعا كليا ، وتمكينه من إشباع حاجاته الكمالية .
أما بالنسبة للخطوط العريضة التي يضعها النظام الاقتصادي في الإسلام فهي :
1.       إيجاد التوازن في المجتمع لتنتفي الطبقية من أجل توزيع الثروة بين الناس فقد منع الإسلام حصر تداول المال بين فئة معينة من الناس ، قال تعالى : ]كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم[ .
2.                منع كنز المال ، قال تعالى : ]والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم[ .
أما بالنسبة للأحكام التفصيلية : فقد تكفل الإسلام برعاية شؤون أفراد المجتمع فردا فردا بالوقوف على إشباع حاجاتهم الأساسية إشباعا كليا ، مع توفير الأمن والطمأنينة لهم ، وتكفل بإلزامية التعليم ومجانيته ، ومجانية التطبيب والعلاج  
فقاعدة حرية التملك هي التي أوجدت الاختلال في التوازن بكسرها كافة القيود ، وإهدارها للقيم ، وعدم اعترافها بالأخلاق والمثل العليا . كذلك عندما تكون (النفعية) هي مقياس الأعمال كلها يصبح المال غاية يلهث وراءها ذوو الميول المادية وشر المصائب أن يبقى المال لذاته غاية ، فتغيب الفضائل ، وينقلب أبناء المجتمع إلى ثعالب يتربص بعضهم ببعض ، أو وحوش كاسرة يأكل القوي الضعفاء فالمقياس الصحيح للأعمال هو قاعدة (الحلال والحرام) أي الرجوع إلى الحكم الشرعي عند القيام بالعمل أي النظرة إلى الصلة بالله ، وهيمنة التقوى على النفوس ، والإيمان بأن الرزق قضاء . فيمتنع الإنسان في معاملاته المالية وشؤونه الاقتصادية ويمتنع عن الغش ، والغبن والاحتكار ، ويعلم علم اليقين أن الربا حرام ، فهذه الكيفيات في التعاملات المالية تبقي المجتمع متوازنا ، ويستطيع كل فرد في المجتمع أن يشبع حاجاته الأساسية دونما عناء عن طريق الكسب الحلال ؛ فالمال واسطة التبادل وليس غاية لذاته .
          عندما تكون (النفعية) مقياسا للأعمال ينتفي الصدق وتنتفي الأمانة من المجتمع ، ويحل محلها الكذب والغش والاحتيال . عندما يكون المجتمع لا لون له بتطبيق قاعدة الحريات ، يبرز في المجتمع الفساق والمجّان ، والمغنون والراقصون والراقصات ، وتنتشر دور البغاء والملاهي الليلية ودور القمار ، ويُروّج لأفكار الفساد والإلحاد ، ويموه السياسيون أعمالهم بالتزوير ، فيصورون الهزائم نصرا ، والخيانة بطولات ، ودعاة الإسلام إرهابيين متطرفين .
          نتساءل : كيف يكون الثمن هو الحافز على الإنتاج ؟ وهل صحيح أن الإنسان لا يقوم بالأعمال إلا وينتظر المكافآت المادية ؟
          نقول : إن الإنسان فيه غرائز وحاجات عضوية فطريا ، وهذه كلها تتطلب الإشباع . ولكن هذه الحاجات والميول والرغبات ليست مادية فقط ؛ فلدى الإنسان الميول الروحية ، ولديه تطلعات معنوية وفيه حوافز إنسانية وأخلاقية ، فهذه كلها لا يقوم بها الإنسان لقاء المكافآت المادية . صحيح إن الإنسان يقوم بأعمال ينتظر عليها المكافأة المادية . ولكن الميول الروحية كالتقديس والعبادة لا يبتغي من القيام بها إلا الثواب من الله في الآخرة ، ولا يخطر بباله عند القيام بها أي أجر مادي . كذلك ينفق الإنسان أموالا طائلة لبناء مسجد أو لمساعدة الفقراء والمحتاجين . كما أن الإنسان يقوم بأعمال يرجو من القيام بها المفاخرة والثناء .
فمثل هؤلاء لا يخطر ببال أحدهم المكافأة المادية . كذلك لو أن خطرا داهم البلاد من الخارج ، فترى أبناءه يهرعون للدفاع عنه بالعمل في الخنادق والسهر الليلي والتدريبات وما إلى ذلك ولا يخطر ببال أحدهم المكافأة المادية .
          فالقول بأن الإنسان إنما يقوم بالأعمال من أجل المكافأة المادية قول غير صحيح وبعيد عن الصواب .
          نقول أيضا لماذا حشرتم قاعدة حرية التملك في البحث ؟ وهي التي أوجدت الخلل في التوازن لأنها كسرت القيود التي ينضبط بها السلوك ، وتنتظم بها العلاقات ، وفتحت الباب على مصراعيه ليستعمل القوي قواه ، واللبق لباقته في تحصيل المال ، ويبقى الضعيف والأبله وقليل الحيلة بعيدا منبوذا وكأنه لا يصلح للحياة .
          ونظرة إلى الأسواق وما فيها من فائض هائل من السلع والخدمات وما يقابلها من الحشود الهائلة من الناس الجياع والعراة والمحرومين ، يمرون بالأسواق والسلع مكدّسة ولا يستطيعون تناولها فيزدادون حرمانا وألما . فأين هو الثمن ؟ وأين دوره ؟ وتفعيل آليته وميكانيكيته ؟ إنه وهم وقول هراء .
          ثم إن إيجاد التوازن بين العرض والطلب هو في الحقيقة في يد المنتجين أنفسهم وإن كانوا يراقبون الأسواق وقوة الطلب أو ضعفه بمراقبتهم للأثمان فيزيدون من إنتاج السلع أو ينقصون . فالثمن في أيديهم يتحكمون به كمقياس (ترمومتر) فتراهم لا يقنعون بالربح القليل ، بعد أن انعدمت لديهم النظرة الإنسانية ، وأصبح المال عندهم غاية لذاته ، خرجوا بصناعاتهم ومنتوجاتهم خارج حدود بلادهم وأوجدوا لهم مناطق نفوذ ، وفتحوا فيها أسواقا يفرضون الأثمان العالية التي تناسبهم ، ووجدت الاحتكارات والتجمعات ووجد ما يسمى (الكونسوريوم) وأصبح الاستعمار ضرورة لا بد منها . كما أنهم على استعداد لإشعال الحروب المدمرة من أجل الحفاظ على مناطق النفوذ ، وإيجاد مناطق نفوذ جديدة . فالاستعمار جزء من عقيدة المبدأ الرأسمالي ، بل هو الطريقة التي ينتشر بها هذا المبدأ .
          وأخيرا : فزيادة الدخل الأهلي ووفرة الإنتاج القومي وإغراق الأسواق بفائض الإنتاج ، وشتى أنواع الخدمات ، لا يعالج المشكلة الاقتصادية الحقيقية ، وهي توزيع الثروة على أفراد المجتمع فردا فردا لإشباع حاجاتهم الأساسية إشباعا كليا ، وتمكينهم من إشباع حاجاتهم الكمالية . وستبقى المشكلة قائمة بلا علاج ، وسيبقى التباين الطبقي موجودا في المجتمع ؛ الغنى الفاحش والفقر المدقع ، ما دامت الدراسات منصبة على علم الاقتصاد ، وما دام المتشرعون بعيدين عن فهم المشكلة الاقتصادية ، بعيدين عن وضع التشريعات التي تعالجها علاجا جذريا .
          هذه خلاصة الاقتصاد الرأسمالي عند الغربيين . وهذا إبراز للأسس والقواعد والخطوط العريضة التي ينبني عليها هذا الاقتصاد ، وهذه حصيلة دراساتهم ، ومجمل نظرياتهم . وكلها قامت على قواعد خاطئة وأسس فاسدة ؛ فأنتجت تفريعات خاطئة ومعالجات فاسدة . وبذلك فقد تعرّى القائمون على دراسة هذه الأسس ، والقائمون على تطبيقها وتنفيذها . ونكون بذلك قد بينا أصل الداء ، ومكْمن العلة ؛ وخير شاهد على صحة ما وضحناه ، وصدق ما توصلنا إليه ، هو الواقع المعيشي والظواهر الحياتية لمن يعيشون في إطار هذا النظام الفاسد في عقيدته ، والفاسد في قواعده وخطوطه العريضة والفاسد في معالجاته لمشاكل هذا الإنسان ، في أفراده ومجموعاته . ويكفينا تدليلا على الفساد المستشري هو وجود الاستعمار بنوعيه القديم والجديد .


[1] في المنافسة الكاملة يكون عدد المنتجين كثيرا وعدد المستهلكين كثيرا ، بحيث لو انسحب أحد المنتجين أو انسحب أحد المستهلكين من السوق لا يؤثر على توازن السوق . فيكون كل واحد من المنتجين وكل واحد من المستهلكين ذره (لبنه) في هذا البنيان .
[2] المنفعة في البيضة ليست كالمنفعة في رأس الفجل فالخبراء في السوق ، وفي استعمال المنافع ، أي تقديرات المجتمع لمنافع السلع والخدمات عند تكرار استعمالها استقر لديهم التفريق والتفضيل بين منافع مجموعات السلع والخدمات فكان من السهل لديهم جعل المنفعة مقياسا للسلع والجهود .
الصفحة السابقة