نعم الرفيق (كتاب)
قال الشاعر:
تلهو به إن خانك الأصحاب | نعم المحدث والرفيق كتاب | |
وينال منه حكمة وصواب | لا مفشيا للسر إن أودعته |
بمثل هذه الأبيات من الشعر وأقوال كثيرة كان السلف الصالح يتفانون في حب الكتب ومجالستها لما فيها من العلم والفائدة، وإن كنا في هذا العصر نشهد ثورة ثقافية هائلة في عالم الكتب حتى أصبحت المنازل لا تكاد تخلو من مكتبة تحوي أصناف العلوم والمعارف إلا أننا في عالمنا الإسلامي بعد لم ندرك قيمة الكتاب، وليس للكتاب المكانة التي كانت لسلفنا الصالح، فالمشهور عن العرب أنهم لا يقرءون وفعلا هم لا يقرءون ولا يقدرون الكتاب قدره، ولا نريد أن نضرب المثل بالغربيين واحتفائهم بالكتب كما يفعل الكثيرون ممن اغتروا بالحضارة الغربية، ففي سلفنا الصالح كما ذكرت القدوة الكاملة فهم الذين حملوا تراث العلم لهذه الأمة وحصلوا على السبق في هذا المجال.
ولكي يعرف المسلمون أهمية الكتاب والدور الذي يؤديه في رفع شأن الإنسان ومن ثم الأمة نستعرض معًا صفحات من حياة سلفنا، وتقديرهم للكتاب والاهتمام به.
الحرص على الكتابة
حين شاعت في هذا العصر وسائل الترف وركن الناس إلى الخمول كسلوا عن الكتابة وسموا عصرهم عصر السرعة، لذلك فالقارئ يحتاج إلى كل شيء سريع، وخفيف وإن كان هزيلاً، فالماديات لا تدع له مجالاً للتعمق، أما الخليل بن أحمد فإنه يفتح طريقًا لكل سالك علم فيقول: ما سمعت شيئا إلا كتبته، ولا كتبت شيئا إلا حفظته، ولا حفظت شيئًا إلا انتفعت به.
فما كانوا يسمعون شيئًا إلا كتبوه خشية أن يضيع عليهم فإن آفة العلم النسيان وهم بذلك يسمعون وصاية الشافعي
-رحمه الله- حين خرج على أصحابه وهم مجتمعون فقال لهم: اعلموا رحمكم الله أن هذا العلم يند كما تند الإبل، فاجعلوا الكتب له حماة، والأقلام عليه رعاة.
شغف بالكتاب
وقد أرسلوا لأقلامهم العنان فقامت ملكتهم الأدبية بوصف الكتاب وصفًا أخاذًا ينبئ عن حبهم للكتب وإدراكهم لقيمتها وشغفهم بها فهذا ابن المعتز يصف الكتاب فيقول: (الكتاب والج للأبواب جريء على الحجاب، فَهْمٌ لا يفهم، وناطقٌ لا يتكلم وبه يشخص المشتاق إذا أقعده الفراق) وقال آخر: (إنه حاضر نفعه، مأمون خيره، ينشط بنشاطك فينبسط إليك، ويمل بمللك فينقبض عنك، إن أدنيته دنا، وإن أنأيته نأى لا يبغيك شرا، ولا ينبش عليك سرا، ولا ينم عليك ولا يسعى بنميمة إليك).
وعبر الشاعر عن التصاقه بالكتاب وقربه إليه فقال:
إن خانك الندماء والأصحاب | نعم النديم إذا خلوت كتاب | |
أو أن يغيبك عنده مغتاب | فأبحه سرك قد أمنت لسانه | |
إن العتاب من النديم عذاب | وإذا هفوت أمنت غرب لسانه |
بل إن بعضهم كان يستعين به على الغربة ووحشتها ويوصي به المسافر فودع أحدهم صديقا له فقال له: (استعن على وحشة الغربة بقراءة الكتب، فإنها ألسن ناطقة، وعيون رامقة).
وهو النديم حين يتفرق الندماء، وبه تأنس الوحدة، وتطيب المجالس، قيل لبعضهم أما تستوحش، فقال أيستوحش من معه الأنس كله، قيل وما الأنس كله؟ قال الكتاب.
استشعر ذلك ابن المبارك فكان يطيب له كثيرا مجالسة الكتب والخلوة معها فلامه أصحاب على عدم رؤيتهم له فقال لهم: (إني إذا كنت في المنزل جالست أصحاب محمد r) يعني النظر في الكتب.
اقتناء الكتب
وطبيعي أن يكون هذا الحب والشغف للكتب مع إدراك قيمتها وفائدتها دافعاً لهم لشرائها واقتنائها لا لوضعها لزينة وديكور (تزين به الغرف كما يفعل الناس الآن) إنما للمطالعة والبحث والاستفادة، ولهم حوادث طريفة كل الطرافة في حسرتهم على فقد الكتب وبيعها أو في سعادتهم بشراء الكتب، فحدث أن باع أحدهم كتاباً ظن أنه لا يحتاج إليه ثم إنه احتاج إليه فالتمس نسخة منه، فلم يجدها بعارية ولا ثمن، وكان الذي ابتاعه قد خرج به إلى بلده فشخص إليه، وسأله الإقالة وارتجاع الثمن منه، فأبى عليه، فسأله إعارته لنسخ الكلمة منه، فلم يجبه، فانكفأ قافلا وآلى على نفسه ألا يبيع كتابا أبدا.
وقيل لآخر: ألا تبيع من كتبك التي لا تحتاج إليها؟ فقال: إن لم احتج إليها اليوم احتجت إليها بعد اليوم.
وقد لاموا أحدهم بشراء كل كتاب يراه وقالوا له: إنك لتشتري ما لا تحتاج إليه فقال: إنما احتجت إلى ما لا أحتاج إليه وكان بعض القضاة يشتري الكتب بالدين والقرض، فقيل له في ذلك فقال: أفلا أشتري شيئا بلغ بي هذا المبلغ قيل: فإنك تكثر فقال: على قدر الصناعة تكون الآلة.
استعارة الكتب وآدابها
قرأت في إحدى المجلات عن أشخاص كانوا لهم مكتبات من كتب الناس، فكانوا يستعيرونها ثم لا يرجعونها وانتشرت سرقة الكتب هذه تحت ستار الاستعارة حتى اشتهر بها أناس من المعروفين بالمكانة الاجتماعية وإن كان هذا طريقا غير شرعي ولصوصية فقد ذمه السلف، ووضعوا آدابا لاستعارة الكتب من خالفها يمتنعون عن إعارته مرة أخرى.
فمن آداب الاستعارة توقير الكتاب والاهتمام بنظافته، فكثير ممن يستعيرون الكتب يرجعوها إلى أصحابها أبعد ما تكون عن النظافة، وحدث هذا مع أبي حامد أحمد بن طاهر الإسفراييني الفقيه حين استعار منه رجل كتابا فرآه يوما وقد أخذ عليهم عنبا ثم إن الرجل سأله بعد ذلك أن يعيره كتابا، فقال تأتيني إلى المنزل فأتاه، فأخرج الكتاب إليه في طبق وناوله إياه، فاستنكر الرجل ذلك وقال ما هذا فقال أبو حامد: هذا الكتاب الذي طلبته وهذا طبق تضع ما تأكله عليه فعلم بذلك ما كان من ذنبه.
ومن آداب الاستعارة ألا ترجع الكتاب متغيرًا متكسرًا مهلهلاً فإن فعلت ذلك عوقبت بمنعك من الاستعارة كما فعل بعض أهل العلم حين استعار من رجل كتابًا ثم رده إليه بعد حين متكسرا متغيرا عليه آثار البذور وغيرها، فسأله أن يعيره غيره فقال له: ما أحسنت ضيافة الأول فنضيفك الثاني، أما فَقْد الكتاب المستعار فهذه الكبيرة من كبائر الاستعارة لا يحق لمن فعلها أن يعار بعد ذلك حتى أن أحدهم بين ندمه على تضييع كتاب قد استعاره فقال: إنه أعاره رجل من وجوه بني هاشم بالبصرة دفترًا فضاع فتفجع لذلك فاعتذرت إليه وقلت:
تعطي المعالي وتبسط النعماء | يا مالكا ما تزال راحته | |
بواسع العفو منك ما احترما | هب لمقر بالذنب معترف | |
فخانه الدهر فيك فاصطلما | أعرته دفترًا تضن به | |
يزيد عندي خطيئتي عظما | إعظامك العلم إذ فجعت به |
وجعل الشاعر رد الكتاب المستعار شرطا في الإعارة فقال:
إن رددت الكتاب كان صوابًا | أيها المستعير مني كتابًا | |
كنت أعطيته أخذت كتابًا | أنت والله إن رددت كتابًا |
وبعد: يا أخي المسلم: إسلامك يحتم عليك أن تكون ذلك الداعية الذي يحمل دعوته عن علم لا عن جهل، وأعداء الإسلام يغرقون الأسواق بكتبهم المبتذلة وهم مع ذلك لا يجدون من يقبل عليها فيضطرون لتوزيعها مجانًا فأقبل أنت على الكتاب الإسلامي وشجع هذا الكتاب واحرص على اقتنائه وبذل الدعاية له ونشره بين أوساط الناس، وحين تفعل ذلك تكون قد نشرت فكرتك بين الناس وواجهت أي أفكار معادية وبالله التوفيق([1])